من اللافت أن رئيس الولايات المتحدة جو بايدن الذي استعرض أفكاراً لهدنة بين الكيان والمقاومة قد فضّل أن يتمّ تقديم المقترح باسم الطرف الإسرائيلي وليس من قبل الولايات المتحدة وأغلب الظن أنه بذلك يريد أن يُري العالم أن الكيان الصهيوني هو الذي يقدّم المبادرات التي قد ترفضها المقاومة لكونها غير مستوفية أي شرط من الشروط التي قاومت المقاومة وضحّت من أجلها. وقد قال الرئيس بايدن إن هذا المقترح يعيد كل الأسرى الإسرائيليين ويؤمّن الأمن لإسرائيل ويخلق يوماً أفضل في غزة بعد حماس، كما يهيّئ الأرضية لتسوية سياسية من أجل مستقبل أفضل للإسرائيليين والفلسطينيين، وفي تركيزه الشديد على مصلحة إسرائيل وأمن إسرائيل أضاف بايدن: «يمكن لإسرائيل أن تصبح جزءاً من نسيج المنطقة بما فيه اتفاق تطبيع تاريخي محتمل مع السعودية وبهذا تصبح إسرائيل جزءاً من شبكة أمان في المنطقة لمواجهة التهديد الإيراني».
ليس مستغرباً لرئيس دولة استخدمت دولته النقض «الفيتو» في مجلس الأمن ضدّ فلسطين ثلاث وخمسين مرة، أن يمتلك الجرأة بعد كل الإبادة التي ارتكبتها إسرائيل بأسلحته وقنابله، أن يقدّم مقترحاً يصبّ من ألفه إلى يائه في خدمة الكيان المجرم متجاهلاً الحقوق التي يناضل الشعب الفلسطيني ويضحّي من أجلها منذ سبعين عاماً ونيّف، وألّا يأتي على ذكر الأسرى الفلسطينيين الذين يعانون من التنكيل والتعذيب اليومي والذين كان تحريرهم هو الهدف الأول المرتجى من عملية طوفان الأقصى.
فقط في اليوم 16 من المرحلة الأولى، تبدأ المفاوضات حول وقف إطلاق نار حين تضع إسرائيل شروطها، وإذا كان كل بند في اتفاق أوسلو يحتاج إلى مفاوضات فإن مبادرة بايدن لا بنود فيها للتفاوض سوى ما يصبّ في مصلحة وأمن ومستقبل ودور الكيان الصهيوني في المنطقة، على حين كل ما قدّمته للشعب الفلسطيني هو كلمات عامّة وعائمة لا التزام بها ولا إلزام لإسرائيل بفعل أي شيء حيث قال: «وكلّ هذا سوف يخلق ظروفاً من أجل مستقبل مختلف ومستقبل أفضل للفلسطينيين لتقرير المصير والكرامة والأمن والحرية».
وبهذا فقد أخرج بايدن عملية طوفان الأقصى وكل تضحيات المقاومة والشعب الفلسطيني في غزة والضفة عن سياقها التاريخي وأهدافها المعلنة، وقدّم تغطية ومكافأة للكيان الصهيوني على كل ما اقترفه من إبادة غير مسبوقة لشعب فلسطين، شهد عليها العالم برمّته، من خلال حرصه على تقديم الأمن والدور المستقبلي في المنطقة لهذا الكيان، وهنا يصبح التماهي بين الدور الذي قام به الغربيون في إبادة شعب أصيل في أميركا وأستراليا واحتلال أرضه برمّتها، وبين محاولاتهم إنجاز الأمر ذاته في فلسطين، أمراً واضحاً ليس بحاجة إلى شرح أو تفسير، إذ بعد إخراج طوفان الأقصى عن سياقه الذي أعلنته المقاومة الفلسطينية بكل وضوح، مازالت الولايات المتحدة تسخّر كل إمكاناتها لتضليل العالم حول ما يجري في فلسطين كلّها محاولة أن تبني نصراً انتخابياً على حساب دم الضحايا الذين قضوا في حرب إبادة شنيعة كان لأسلحة ودعم الولايات المتحدة فيها الدور الرئيس.
فأيُّ معطيات يتوافد الوسطاء للنقاش فيها بعد أن تبيّن أن ما سموه «مبادرة بايدن» والتي قدمها للكيان كي يطرحها باسمه، ليست سوى استكمالاً للإجهاز على المقاومة والشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع وإذابة حقوقهم التاريخية في أرضهم بقوة السلاح والإعلام، ومن ثمّ تنصيب إسرائيل حَكَمَاً على أمن المنطقة برمّتها وقاعدة متقدمة للغرب برمّته في نهب موارد الشرق الأوسط ومنع أي دولة عربية من النهوض بأساليب وطرق مَرَدوا على استخدامها في إيقاف عجلة التطوير في الدول المستهدفة؟
من المهم جداً أن نسجّل في كل هذه المحاولات الخبيثة التي تُطرح باسم الحرص على إنهاء القتال، وهدفها الأساس هو إخراج الأسرى الإسرائيليين دون أي ثمن يُذكر، نرى أنه لا ذكر لسياق الاحتلال للأرض ولا لقرارات الأمم المتحدة بهذا الصدد ولا للحق الفلسطيني في تقرير مصيره وإحقاق حقوقه المشروعة، ولا لحق العودة للاجئين الفلسطينيين المنصوص عليه أيضاً بقرارات أممية، وبهذا هم يُخرجون القضية من سياقها الأساسي ليُدخلوها في سياق لفظي غامض لا يُلزم المفاوض بأي شيء لأنه لا ينصّ على أي شيء أصلاً، كما أنه من المهم أن نسجّل أيضاً أن هذا العدوان القانوني والمعرفي والسردي على حقوق شعب فلسطين والذي أثار حراكاً مجتمعياً في الغرب لمصلحة فلسطين قد تمّ إخماده إلى حدّ ما لأن مثل هذا الحراك قلب المعادلة وفضح طبيعة الأنظمة الغربية المنافقة وأوصل الصوت الفلسطيني للمرة الأولى إلى داخل بيوت المعتدين وداعميهم، ومن هنا نرى التكامل بين الإجرام اللا مسبوق في الميدان ودعمه بالقنابل والفوسفور وكل الأسلحة المحرّمة، وبين المراوغة والمداهنة في ما سموه «بالجهود لوقف إطلاق النار» التي لم تكن تهدف من اليوم الأول وحتى اليوم إلى وقف العدوان وإنما إلى كبح الأصوات المؤيدة للحق الفلسطيني داخل الدول الغربية، كي يبقى السياق الذي تبنّوه ضد كل حق وقانون وإنسانية إنسان، كي يبقى قائماً غير ممسوس به.
بما أن هذه حقائق وثوابت لأساليب هذا الاحتلال الغاصب وداعميه، وبما أنه لا وجود للقانون الدولي ولا للأسرة الدولية ولا لأي طرف قادر أن يثني الغرب عن دوره المتماهي مع الكيان الصهيوني، حيث إن هذا الكيان يمثّل مصالح الغرب في منطقتنا، لا يبقى أمام القوى التحرّرية المتطلّعة بالفعل إلى إنجاز حرية الأرض والإنسان، سوى المقاومة وبذل الغالي والرخيص في سبيل تحرير مشرّف لا طريق يؤدي إليه أبداً سوى الإيمان به والتضحية في سبيله، ومن هنا فإن ما قام به المقاومون الأبطال خلال ثمانية أشهر وما قامت به جهات الإسناد في لبنان والعراق وسورية واليمن، هو فرض عين من أجل بقاء هذه الأمّة، بقاءً يليق بشعبها وبكرامتها ويستجيب لضرورات أمنها وحتمية مستقبلها.
والمقاومة هي فرض عين ليس فقط على شعب فلسطين في الضفة والقطاع وعلى محور المقاومة وإنما على كل من يعتبر نفسه منتمياً لهذه الأرض وراغباً في العيش عليها بحرية وكرامة وأمن حقيقيين، أمّا المهادنة والاسترضاء للأعداء فلن يقودوا سوى إلى مزيد من الخسارة والخذلان، وتجارب التاريخ التي مرّت بها شعوبنا أكثر من أن تُحصى، ولقد ذكر الإعلام الإسرائيلي منذ أيام أن المقاومين في غزة صامدون ليس فقط بسبب عقيدتهم الدينية ولكن بسبب إيمانهم العميق أن هذه الأرض أرضهم وأنهم لن يغادروها، أي إن الانتماء للأرض والتاريخ هو السلاح الأمضى في المقاومة، والمقاومة ليست حكراً على الأنفاق والسلاح بل إن المقاومة بالكلمة والصورة والموقف والسردية والإعلام هي مقاومة فعّالة ومطلوبة اليوم، فعلى الكُتّاب المؤمنين بحقوق شعوبهم مثلاً أن يبذلوا جهوداً مضنية لإعادة سياق الصراع إلى مساره الصحيح وللخروج للعالم برمّته بالسردية التاريخية الحقيقية والسياق التاريخي الصادق كي يعيدوا شحذ همم الأطفال والناشئة.
ليس مصادفة أن جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة كانت أول جامعة تتحرك ضد الإبادة الصهيونية ذلك لأن إدوارد سعيد، القامة الفكرية الفلسطينية العملاقة، قد أمضى فيها عمراً يفنّد أكاذيب الاحتلال وينتصر لحقوق شعبه من موقف العارف والقادر على مخاطبة الغرب بلغته والتفوق عليه بحجته وفكره وأسلوبه، ولقد حان للكتاب العرب جميعاً أن يتوقفوا عن السعي لنيل جوائز من الغرب لا ينالها إلا من يتنكّر لجذر حضارته وأسلوب عيش أمّته، وآن لهم أن يشكّلوا هم، بأدبهم وكتاباتهم، المركزية الوحيدة للحق العربي وألّا يستدرّوا عطف «كتاب كبار»، كما يسمّونهم، من الغرب لأن هؤلاء مهما كانوا كباراً فهم ملتزمون بفكر وإرادة ومواقف دولهم، تماماً كما ذكر الراحل إدوارد سعيد عن جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار حين التقاهما وصُعق أنهما لم يقدما كلمة واحدة لأجل فلسطين ولم يسمحا له أن يتحدث عنها.
لقد أصبح من الضروري أن نؤمن جميعاً أن العقلية الاستشراقية العنصرية هي التي تحكم الغرب وأننا في نظره كلنا تابعون ولا نرقى إلى مستواه على سلّم البشرية، وأن نكرّس فكرنا وأدبنا وأقلامنا لخدمة قضايانا كما نعيشها ونراها نحن، طامحين إلى إحقاق الحق وإسعاد أجيال أمتنا وليس إلى استرضاء المعتدي وأعوانه المنافقين.
من حقنا أن نتنكّر لسياقهم الكاذب والمنافق وأن نهتدي بنور حقوقنا ونخلق سياقاتنا ونعتزّ بمفكرينا وإنتاجنا الحضاري، لا أن ننبهر بالضوء الخافت القادم من الغرب على حين الشمس الساطعة تشرق من الشرق.