الإعلام تايم - مقالات وآراء
لحظة مراجعةٍ تركية ـ روسية في اسطنبول لحصيلة شهرين منذ تعهداتٍ تركية للروس بإقفال معابر الإمداد عبر حدودهم بالسلاح والمسلحين للمجموعات المسلحة، والذهاب نحو تطبيع تدريجي للعلاقات الديبلوماسية مع دمشق، والإسهام في الحل السياسي.
العناوين التقاربية شغلت شهري آب وأيلول بسلسلةٍ لا نهاية لها من تصريحات رئيس الوزراء التركي بن علي يلديريم عن قرب التطبيع مع دمشق، وتأييد الحل السياسي في سورية بعد خمسة اعوام لم ينقطع فيها طريق "الجهاد" من أنطاكيا إلى الشمال السوري، حيث سجّل "المرصد السوري لحقوق الإنسان" حتى مطلع آب الماضي مقتل 53 ألف مقاتل أجنبي في الميادين السورية، والآلاف من أطنان الأسلحة التي قالت "الإيكونومست" أن قطر وحدها أنفقت عليها حتى العام 2013 أكثر من أربعة مليارات دولار لتسعير الحرب في سورية، عبر تركيا. أوحت أيام ما بعد سان بطرسبورغ، للمرة الأولى، بتخلي الأتراك عن خططهم التي عملوا عليها مع مجموعاتهم المسلحة بهدف إزاحة الرئيس بشار الاسد، والصلاة في الجامع الاموي، إذ بدأ يلديريم يردد أن من حق السوريين أنفسهم اختيار قيادتهم.
الملف السوري سيكون الأبرز في لقاء الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، على هامش "مؤتمر الطاقة العالمي الثالث والعشرين". فالمقايضات التي انعقدت بين الرجلين حول سورية في لقائهما الأخير في التاسع من شهر آب في سان بطرسبورغ، ستوضع مجدداً على الطاولة. والمراجعة في ما نُفذّ أو لم ينفذ من تلك التعهدات التي أخذها على نفسه الرئيس التركي في آب، ستتسم بواقعية افتقدتها آنذاك، إذ إن اللحظات الحرجة انجلت خلال الشهرين الماضيين، والبحث عن سندٍ دولي، بعدما وجد أردوغان نفسه وحيداً، مع موسكو وطهران إلى جانبه، في مواجهة صفّ طويل من الأصدقاء والحلفاء الأوروبيين والخليجيين والأطلسيين، الذين ترددوا كثيراً قبل أن يقرروا استنكار محاولة اغتياله سياسياً، والانقلاب عليه.
الأتراك استعجلوا في آب الذهاب الى تفاهمات سريعة حول سورية، تلبي جزءاً جوهرياً من المطالب الروسية، لا سيما إقفال معابر المسلحين والإمداد نحو الميادين السورية وتطبيق القرار 2170 القاضي بإقفال معابر الإمداد التركية بالسلاح والمسلحين في سورية، والذي لا يزال مجرداً من أي آليات تطبيقية، رغم مرور عامين على التصويت عليه في مجلس الأمن. الأتراك بدوا في تلك اللحظة الانقلابية الحرجة، أقرب من أي وقت مضى الى عقد صفقة مع الروس في سياق المصالحة، بعد طي صفحة اسقاطهم طائرة "السوخوي" الروسية في 32 تشرين الثاني الماضي، دون المبالغة بالذهاب نحو انقلاب في موقعهم على خريطة التحالفات مع الولايات المتحدة، ولا في زحزحة وقوفهم على الجناح الجنوبي لحلف شمال الاطلسي.
الرئيس بوتين سيُذَكِّر أيضاً رجب طيب أردوغان اليوم، بأنه هو من طلب مهلة ستة أشهر لتنفيذ تعهداته السورية: إغلاق المعابر، وتطبيع العلاقات الديبلوماسية، والتعاون مع موسكو في الحلّ السياسي في سورية. وأوحت الأيام التالية للقاء بجدية تركية في الذهاب نحو تحول في الموقف من الحرب السورية. وفي الحادي عشر من آب، وصل الى موسكو وفد أمني يقوده رئيس الاستخبارات التركية حقان فيدان، ومسؤول من الخارجية، وأحد كبار ضباط الأركان الذين يعملون في الجيش الثالث، على مقربة من الحدود التركية ـ السورية. وخلال الأسابيع التي تلت لقاء موسكو، بدأ الأتراك سلسلةً من المفاوضات، مع الروس، والسوريين، والإيرانيين، في بغداد، وموسكو، مع بعض التقدم، دون أن يتحقق الشقُّ الجوهري من المطلب الروسي: إقفال المعابر التركية أمام امدادات المجموعات المسلحة نحو سورية.
ومن دون المقايضة التي جرت بتسهيل سورية وروسيا وإيران ضرب الأتراك للمشروع الكردي في سورية ودخول وحدات تركية الى جرابلس والتمدد نحو مدينة الراعي غرباً بطول 70 كيلومتراً، مقابل تخلي الأتراك عن المجموعات المسلحة جزئياً في معركة حلب وسحب أكبر عدد منهم نحو جرابلس، كان لقاء اليوم سيجري في ظروف أقسى للرئيس التركي، إذ إن أياً من التفاهمات الاخرى لم تر النور. ويمكن أيضاً وضع سحب الآلاف من المسلحين من حلب، الذي أدى إلى خلخلة كتلتهم الأساسية وخطوط دفاعهم في مواجهة الجيش السوري، تحت حاجة الأتراك بشكل خاص الى عديد لإنشاء جيش احتلال رديف للشمال السوري، تحت أعلام "درع الفرات"، أكثر من حرصهم على الوفاء بالتعهدات، التي أدت في النهاية، الى وضع حلب الشرقية تدريجياً في قبضة الجيش السوري، فضلاً عن انتشار ظاهرة الارتزاق التي دفعت مئات المقاتلين، من مجموعات حلب المحاصرة، الى الالتحاق بالأتراك، في مشروع منطقتهم الآمنة، والقضاء على أي مشروع كردي لوصل كانتون عين العرب كوباني شرقاً بعفرين غرباً.
من دون نقض الاستخبارات التركية لتعهدات سان بطرسبورغ، بالحدّ من تدفق الأسلحة بانتظار انتهاء الأشهر الستة لإقفالها، لا يمكن تفسير ظهور العشرات من صواريخ الغراد في الأسابيع الماضية بيد المجموعات المسلحة، واستخدامه لضرب مواقع الجيش السوري في معارك حماه، وريف اللاذقية الشمالي، والتهديد بالحصول على كميات أكبر قد يهدد مداها الأبعد، الذي يصل الى 40 كيلومتراً، بضرب قواعد روسية في حميميم وكويرس، وقصف مدن وتجمعات سورية كبرى، لا يسع مدفعية المعارضة المسلحة الوصول اليها او تهديدها.
أما التعاون العسكري، فلم يعد الأتراك الى أي تنسيق حقيقي مع الروس إلا في الخامس عشر من أيلول، بعد اجتماع صعب بين رئيس الأركان الروسي، فاليري غيراسيموف، ونظيره التركي خلوصي أكار. والاجتماع لم يُعقد الا بعد الحاح روسي، وتأجيل تركي لموعد مفترض في السادس والعشرين من آب. نقض الأتراك تعهدات واضحة، بعدم تجاوز وحداتهم عمق 12 كيلومتراً داخل الاراضي السورية، والاكتفاء بقطع الممر الكردي نحو عفرين، من جرابلس، والوقوف شمال نهر الساجور، بين جرابلس ومنبج، لمنع تحركات القوات الكردية فيها. واضطر الروس الى تحذير الأتراك من اجتياز الخط المتفق عليه، فيما كانت روسيا تعلن بوضوح رفضها لعملية "درع الفرات".
والأهم أيضاً أن الروس، ليسوا سذجاً الى حدّ تصديق كل التعهدات التركية. فالرئيس بوتين الذي يلتقي رجب طيب اردوغان، لا يزال يحتفظ بأوراق كثيرة، لتذكيره بأحاديث سان بطرسبورغ. فمن بين كل الوعود بتطبيع العلاقات الروسية ـ التركية، لم يتحقق سوى إعادة أساطيل السياح الروس الى تركيا التي تحتاجهم لتنشيط اقتصادها، وملء فنادقها التي فرغت تقريباً طيلة أشهر القطيعة التسعة مع موسكو. الا أن التقنيين الروس الذين كانوا يعملون حتى مطلع العام الحالي على مشروع أربعة مفاعل نووية في تركيا، لم يكونوا في عداد العائدين، كما مقاطعة المنتجات الزراعية التركية لم ترفع بالكامل، ولا يزال حظر تشغيل الأتراك، الحيوي لتركيا، في روسيا، سارياً، كما لا يزال في الأدراج مشروع السيل الجنوبي، وشبكات نقل الغاز عبر تركيا الى أوروبا ، وتحويلها الى منصة أساسية في تصدير الغاز الروسي الى أوروبا، وهي كلها مؤشرات، على أن رجب طيب أردوغان لم يقنع حتى الآن الروس بمصداقية تعهداته، وأن جهداً إضافياً لا يزال مطلوباً، لتطبيع العلاقات، التي تمر أكثر فأكثر، ويوماً بعد يوم، باحترام تعهدات سان بطرسبورغ.