الإعلام تايم - السفير
تحالفُ الضرورة بين "البنتاغون" وأبو بكر البغدادي، أو تحالف الفرصة الأخيرة للولايات المتحدة مع "داعش"، ضد محور المقاومة والإبقاء على سورية ساحة استنزاف لروسيا.
النقاش في أهداف العدوان الاميركي على الجيش السوري، تجاوز منذ اللحظة الأولى فرضية الخطأ المحتمل والمستحيل، إلى عملية متشعبة الأهداف، أولها إسقاط دير الزور بيد "داعش"، بعد أكثر من ثلاث سنوات من المقاومة السورية في المدينة التي لا يزال مئة ألف مدني يعيشون في أحيائها المحاصرة من قبل "داعش"، ويدافع عنها خمسة آلاف مقاتل من الجيش السوري ووحدات الدفاع الوطني، وبعض مقاتلي عشيرة الشعيطات وهي أرقام وخبرة تعني أن إسقاط دير الزور ليس سهلاً، وأن صدمة خلخلة خطوط دفاع الجيش السوري، قد تم تجاوزها، مع استعادة الجيش السوري لمواقعه في جبل الثردة، أو أكثرها، والاحتفاظ بمطار دير الزور كخط إمداد جوي أساسي للبقاء والصمود في المدينة.
فالغارات الأميركية، قامت بها أربع مقاتلات، من طراز "اف ١٦"، و "اي ١٠" الأقل سرعة للقيام بعمليات اشتباك أرضي، ومزودة برشاشات ثقيلة لاختراق المدرعات والتمشيط، وقد قام السرب بموجة قصف أولى بأكمله قبل ان تعود طائرتا الـ "اي ١٠" منفردتين في موجة تمشيط على ارتفاع منخفض، لإنهاء العملية، وكانت قادرة على تمييز الأهداف في الموجة الثانية وهويتها بوضوح أكبر. الغارات دامت خمسين دقيقة، من الخامسة عصر السبت حتى السادسة إلا عشر دقائق، وهو زمن يكفي خلال التحليق وضرب الأهداف، للتحقق من طبيعة التحصينات والأسلحة المنشورة، وطريقة الانتشار، والاستماع إلى الاتصالات لمعرفة هوية الهدف.
كما أنه لم يسبق للأميركيين، ولا لأي من طائرات "التحالف الدولي" أن أغارت على أي من مواقع "داعش" في هذه المنطقة، أو في منطقة غيرها، سواء في القلمون الشرقي في الضمير، أو غوطة دمشق، أو الشريط الذي تحتله "داعش" تحت مسمى "جيش خالد بن الوليد"، على خط الفصل بين الجولانَين المحتل والمحرر من وادي الرقاد عند نهر اليرموك، حتى مدينة القنيطرة، أو في أي منطقة كانت تواجه فيه "داعش" الجيش السوري في سورية بأكملها، منذ أن بدأت عمليات "التحالف الدولي" في أيلول من العام ٢٠١٤، إذ إن الخطاب العلني لشركاء "التحالف"، من فرنسا إلى سلاح الجو الخليجي فالأميركي، هو رفض شن أي غارة على "داعش" في سورية يمكن أن تعود بالفائدة على الجيش السوري. هذه العقيدة هي في صلب الموقف الفرنسي مثلاً الذي منع الضربات الجوية الفرنسية (على تواضعها) ضد "داعش" السورية، إلى ما بعد هجوم الجمعة الباريسي الدامي في الثالث عشر من تشرين العام الماضي. ويردد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، ووزير خارجيته السابق أن لا فرق بين "داعش" والجيش السوري، وأن "داعش" هو صنيعة دمشق. ويضيق هامش الخطأ حتى درجة الصفر، بسبب وجود كامل إحداثيات المواقع العسكرية السورية لدى الأميركيين، بل إن الروس كانوا يزودونهم بالمعلومات التي تستجد عند أي تغيير في مواقع انتشار الجيش السوري.
كما أن هجوم السبت، ليس العملية الأولى ضد الجيش السوري في دير الزور، إذ سعت الولايات المتحدة على الدوام الى إضعاف الجيش السوري في الشرق السوري، بشكل عام عن طريق حلفائها الأكراد في هجومهم قبل أسابيع على مواقعه في مدينة الحسكة، ومحاصرة مواقعه. وسبق لـ "البنتاغون" أن نفذ هجوماً جوياً واسعاً، على معسكر الصاعقة للجيش السوري في السادس من كانون الأول من العام الماضي، مما أدى الى انسحابه من منخفض استراتيجي على الضفة الجنوبية للفرات يحمي منه دير الزور، وسهل دخول "داعش" بعدها بيومين، الى منطقة البغيلية.
فما الذي دعا الاميركيين الى الاعتداء على الجيش السوري، في هذا التوقيت؟
حكمت التجاذبات بين "البنتاغون" ووكالات المخابرات الاميركية، لا سيما العسكرية منها، وهيئة الأركان المشتركة للجيش الاميركي من جهة، ووزارة الخارجية من جهة أخرى، الموقف من الاتفاق مع الروس، وبالتالي الموقف من عملية دير الزور. قرأ الروس أنفسهم العملية على ضوء صعود هذه التجاذبات مع محاولة الخارجية الأميركية والبيت الأبيض، افتتاح اختبار مسار التسوية بعد ترجيح انتصار حلب السوري كفتها، وقال مندوبهم في مجلس الأمن فيتالي تشوركين: "نريد أن نعرف من يقرر الموقف الأميركي في سورية، البنتاغون أم الخارجية الأميركية". ذلك أن المثلث العسكري الأميركي يدفع ليس فقط للهروب من مسار التسوية المحتمل عبر استهداف دير الزور، بغية تجويف الاتفاق من مضمونه، بل الى استعادة الهجوم لاستنزاف الروس على الجبهة السورية التي لا تشكل بنظر الصقور الأميركيين سوى إحدى ساحات الاستنزاف لروسيا في مقاربة أشمل للمواجهة معها ومع محور المقاومة، الهدف الثاني الأساسي للغارات الاميركية. كما عكست ما كان يقوله وزير الدفاع آشتون كارتر قبل أيام من أنه من غير الممكن التعاون عسكرياً مع الروس في سورية "لأنه يخالف مضمون القانون الذي صوت عليه مجلس النواب الأميركي بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم".
توقيت العملية يصادف الاستعدادات الجارية داخل محور المقاومة، وإرسال تعزيزات قريباً الى دير الزور، لفك الحصار عنها، والبقاء على مقربة من المنافذ العراقية السورية، في القائم، والتنف، والتي تتحكم بطريق محور المقاومة الاستراتيجي البري الذي يمتد من طهران، الى بغداد فدمشق فبيروت. كما أن اقتراب موعد الهجوم على الموصل في تشرين الأول المقبل، يدفع الأميركيين الى منح "داعش" مساحة للانكفاء في الشرق السوري وطريقاً للانسحاب، وتحييده في العراق، وإعادته الى الرقة وريف دير الزور، حيث انطلق منه في حزيران ٢٠١٤ لغزو الموصل.
ويخشى الصقور في الإدارة الأميركية أن يكرر الروس والسوريون الاستفادة من الهدنة الحالية، كما استفادوا من هدنة شباط الماضية لدحر "داعش" في تدمر؛ أعاد الجيش السوري تجميع قواته إثر الهدنة، واستقدم وحداته التي قاتلت بفعالية في ريف اللاذقية، واستعادت اكثر مناطقه، لقطع طريق القلمون الشرقي على "داعش"، وإخراجه من بلدة القريتين. كما أخرجه في ٢٣ آذار من مدينة تدمر. ومنذ ذلك الحين، عمل الأميركيون على منع إطلاق عملية سورية روسية مقررة منذ أشهر للتقدم من تدمر عبر السخنة الى دير الزور، بإشغال الجيش السوري، على جبهات الشمال. وأطلق الأميركيون عملية أردنية بريطانية مشتركة في المقابل مع "جيش سوريا الجديد" في الربيع، فور دخول الروس الى تدمر، لاحتلال معبر التنف قادمين من الأردن، وأباد "داعش" تقريباً في حزيران الماضي، موجة من ٢٠٠ مقاتل من "الجيش" نفسه قادته المخابرات الأميركية، بعد ساعات من قفزهم بالمظلات من طائرات أميركية على مطار الحمدان، وقبل أن يتمكنوا من تجاوز المطار نحو مدينة البوكمال القريبة من دير الزور، ومعبر القائم مع العراق.
إن إخراج الجيش السوري من الشرق السوري، كان ولا يزال هدفاً أميركياً، لإبقاء دمشق بعيدة عن مواردها الاقتصادية الأساسية النفطية والزراعية وإضعاف دورها وسلطتها في أي مسار للتسوية مستقبلاً، كما إن إخراج الجيش السوري، يحيي السيناريوهات المتعددة التي جرى الحديث عنها مع انكفاء الجيش السوري تدريجياً من المنطقة، من مشروع الملك عبدالله الثاني ضم العشائر العربية في المثلث السوري العراقي الأردني الى عرشه، الى مشروع الأقليم السني في الأنبار والشرق السوري.
إن استمرار الفشل بالتصويت على التفاهم الأميركي - الروسي في مجلس الأمن يبقي الاتفاق "ثنائياً" غير ملزم، خصوصاً أن الولايات المتحدة ترفض الكشف عن مضمونه، وهو شرط لا بد منه للتصويت عليه بأي حال، مما يهدد الاتفاق، ومسار التسوية المفترضة مع إدارة باراك أوباما. ولكن اقتراب التصويت عليه وتكريسه اتفاقاً دولياً ينهي مرحلة انتظارية يتقاسمها الكثيرون، ممن يراهنون على إفشال الاتفاق الروسي، والتحلل من التزاماتهم، لا سيما القوى الاقليمية كالسعودية، وقطر بدرجة اقل، التي تخرج خاسرة من التسوية كما يتصورها الروس والأميركيون، بالإضافة الى المجموعات المسلحة.
كما أن الدخول اليوم مساءً، إذا ما نجا الاتفاق من الهجوم ـ وهو سينجو لتمسك دمشق وموسكو بتنفيذه ـ في مرحلة مفصلية جداً عنوانها، بعد سبعة أيام من الهدنة سيؤدي ـ الاتفاق ـ الى الإعلان عن تشكيل غرفة عمليات روسية أميركية مشتركة، مهمتها الأولى توجيه ضربات جوية لـ "داعش"، وهذا منتظر، والى "جبهة النصرة" وهو مربط الفرس في تمسك الروس بهذا الاتفاق. إذ إن جر الأميركيين الى التضحية بالعمود الفقري للمعارضة السورية المسلحة، وضربه، سيحرم المجموعات الأخرى من القدرة على مواصلة الحرب، في ظل التقارب الروسي التركي خصوصاً، وتغير الأولويات التركية، من مناوءة دمشق، الى ضرب أي مشروع كردي في الشمال السوري.
وإذا ما دخل الروس والأميركيون فعلاً الى غرفة عمليات مشتركة ضد "جبهة النصرة"، فإن ذلك سيجبر القوى الإقليمية التي تدعمها على حسم موقفها، كما ستدفع المجموعات المسلحة الى حسم الموقف من الاتفاق الروسي الاميركي، والسير بالهدنة، إذ لا تزال حركة "أحرار الشام" بعيدة عن أي قبول بالاندماج في أي جيش جهادي كبير مع أبو محمد الجولاني، أو الدخول معه الى بيت مشترك، في بنك أهداف التنسيق الأميركي الروسي.
ومن دون التبصير في الشق السياسي للاتفاق الروسي الاميركي، الا أنه لن يكون بعيداً عن المقاربة الروسية المعروفة للحل في سورية. ولن يخالف الروس في السر ما يقولونه علناً عن أن التغيير يقرره الشعب السوري، ولا ما توافقوا عليه مع الأميركيين في فيينا، وغيرها، وهو يتركز في خريطة ذات عناوين رئيسة: حكومة وحدة وطنية، وتعديلات دستورية، فانتخابات برلمانية ورئاسية يشارك فيها الرئيس بشار الأسد.