بعد مشاهدة أول فيديو انتخابي يطلقه المرشح الجمهوري والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تمهيداً لبدء حملته الانتخابية، لا يعلم المرء أيحزن على فلسطين التي تعاني من حرب إبادة قذرة أودت بأكثر من خمسين ألف شهيد معظمهم من النساء والأطفال، أم يحزن على الولايات المتحدة التي تغرق بين مرشحين: واحد يغذي حرب الإبادة بكل ما أوتي من مال وسلاح، والآخر يتصدى له من خلال جهل تاريخي وعرقي وحضاري وإطلاق مفاهيم وتهديدات وتعميمات لا تمتّ إلى الواقع بصلة وتنذر بأخطار دفع العالم إلى فوهة بركان من الحقد والكراهية والعنصرية لن تزيد العالم إلا ظلماً وعنفاً وحروباً ومجازر.
وأنت تشاهد فيديو ترامب وفيديو آخر يتسابق فيه مرشحو الحزب الجمهوري في مطالبة مجرم الحرب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بإبادة الفلسطينيين، وكأن الولايات المتحدة أصبحت «الولايات المتحدة الصهيونية»، عندما تشاهد هذا تشعر كأنهم يرون العالم كله غابة متوحشة تتوسطها جزيرة سلام وأمان هي الولايات المتحدة، وأن هدف من يتطلع إلى رئاسة هذه الجزيرة هو تحقيق المزيد من العزلة والابتعاد عن البشرية وعن الأخلاق الإنسانية وقوانين الحرب الدولية في كل أنحاء الأرض خوفاً من تسميم أجواء الجزيرة، والعنصر الوحيد النقي كي يكون صديقاً لسكان هذه الجزيرة عليه أن يكون صهيونياً.
أولاً، وقبل كل شيء أغفل دونالد ترامب ومرشحو الحزب الجمهوري أن التاريخ اليهودي يشهد أن اليهود عاشوا عصرهم الذهبي بين العرب والمسلمين، وأنهم قد هربوا من الاضطهاد الأوروبي إلى أحضان الدول المسلمة والعربية التي احتضنتهم بكل محبة ووئام لأنهم إخوة في الإنسانية ولأن إلهنا وإلههم واحد كما قال اللـه عز وجل في قرآنه الكريم: «إنما إلهكم واحد وأنا ربكم فاعبدون». وهذا يقين لدى كل مسلم حقيقي؛ أي إن معاداة السامية لم تنشأ بين العرب والمسلمين لأنهم أولاً ساميون مؤمنون إن: «أكرمكم عند اللـه أتقاكم».
ثانياً: إن معاداة السامية هي صناعة غربية منذ ظهورها في أوروبا ولحدّ اليوم، وإنما تغيرت منذ سيطرة الصهاينة على الإعلام والسياسة والمال في الغرب من معاداة اليهود لتصبح عداءً فاضحاً للعرب والمسلمين.
كما عبّر ترامب عن جهل معيب بالإسلام حين وصف الإرهابيين بأنهم مسلمون، إذ لا يمكن للمرء أن يكون مسلماً وإرهابياً؛ فالإسلام هو دين المحبة والوئام والسلام والتعايش بين أتباع كل الديانات لا تشوبه عنصرية ولا فوقية ولا استثنائية في التعامل، والجهاد هو أقدس الأعمال التي يمكن أن يقوم بها المسلم من أجل رفع الظلم وإحقاق الحق وتحرير البشر من ربقة الاستعمار والاحتلال والذل والإهانة، يقول ترامب: «إذا كنت تتعاطف مع الجهاديين فنحن لا نريدك في بلدنا»، لقد شوّه البعض كلمة جهاد وجهاديين واستخدموها في سياق مناقض تماماً لمعناها وهدفها الحقيقي، الجهاد في سبيل اللـه وسبيل الحق هو أعلى درجات الإيمان، وهكذا فإن عداء ترامب للسامية ينصب على المسلمين وعقيدتهم بعد أن سيطر الصهاينة على الإعلام والسياسة والمال في الغرب، فأصبحت الولايات المتحدة ودول أوروبا تحكمها الصهيونية المعادية للعرب والمسلمين عموماً.
إن كل ما طالبت به النائبتان عن الحزب الديمقراطي في مجلس النواب الأميركي رشيدة طالب وإلهان عمر، ورئيسة جامعة هارفارد غلودين غاي وآلاف من الأساتذة والطلبة وأحرار العالم هو وقف حرب الإبادة التي تشنها “إسرائيل” على فلسطين وبدعم سخي من الولايات المتحدة، وهذا واجب إنساني وأخلاقي على كل من يشاهد هذه المجازر المروعة التي يرتكبها الصهاينة يومياً بحق شعب أعزل، وخاصة بحق النساء والأطفال الذين فقط يحلمون بالعيش على أرضهم بأمن وسلام، ولذلك فإن ما يقوم به اليمنيون واللبنانيون والعراقيون من إسناد للشعب المظلوم في فلسطين هو عمل أخلاقي وإنساني، كما قال الكاتب والصحفي الأميركي ماكس بلومنثال، وإن ما قامت به جنوب إفريقيا من رفع دعوى لإيقاف الإبادة بحق الشعب الفلسطيني هو واجب أخلاقي على كل دولة وبلد يحترم كرامة الإنسان وحقوقه في هذا العالم، وكما خلّد التاريخ ذكر رئيس جنوب إفريقيا الأسبق نيلسون مانديلا، رغم أنه كان مصنفاً «إرهابياً» في الولايات المتحدة، سوف يخلّد التاريخ عمل جنوب إفريقيا لمصلحة وقف الإبادة والقتل، والانتصار الراقي والمهم لإنسانية الإنسان حيثما كان بغض النظر عن الدين والعرق والجنسية، وهذه هي قمّة الحضارة والأخلاق والشعور الإنساني الراقي.
أمّا أن يتوعد ترامب الجامعات والطلاب وكل من تسوّل له نفسه بانتقاد الجرائم التي ترتكبها الصهيونية في فلسطين، فهذا يذكر بالتاريخ الأسود لأوروبا في العصور المظلمة التي تعرف باسم: «Witch Hunt» حيث جرى تكفير وتعذيب وقتل الآلاف بسبب نشر الكراهية كما يفعل الصهاينة أمثال ترامب والرئيس الأميركي جو بايدن ونتنياهو. إن اجتثاث الكراهية يحتاج إلى معطيات وعوامل أخرى مختلفة تماماً عن الدرب الذي يحاول ترامب وأمثاله سلوكه، لأن ما ورد على لسان ترامب في هذا الفيديو يؤجج الكراهية والفرقة والعنصرية، والمطلوب هو عكس ذلك تماماً؛ المطلوب هو موقف حقيقي وواضح ضد الظلم وضد الحروب وضد القتل وضد المجازر وضد إبادة الأطفال والنساء والأطباء وضد هدم المنازل والمدارس والكنائس والملاجئ على رؤوس النساء والأطفال العزل.
ما توعد به ترامب يثير ويعزّز معاداة السامية بشكلها المعاصر المعادي للعرب والمسلمين لأنه يثير الكراهية والحقد ضدهم بدلاً من الدعوة إلى السلام والوئام، وهنا تكمن الخطورة: إن الولايات المتحدة التي ما زالت أكبر قوة عسكرية في العالم تؤيد وتدعم المجازر التي يرتكبها نظام الأبارتيد الصهيوني وحرب الإبادة ضد المدنيين العزل من جهة، وتبثّ من جهة أخرى روح الفرقة والكراهية بين مكونات الشعوب من ناحية أخرى بدلاً من الوقوف مع الحق ورأب الصدع بين مكونات الأسرة الإنسانية على أساس الوئام والتآخي والمساواة في الكرامة والحقوق.
ظهر ترامب في كلمته كأنه يروّج لمجموعة «كناري ميشن» وهي مجموعة على الإنترنت تطارد منتقدي “إسرائيل” وتنشر الخوف والرعب في صفوف المتقدمين إلى وظائف وأعمال من خلال قائمة سوداء تضمّ كل من يتجرّأ على انتقاد المجازر التي تقوم بها “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني، وهذا بحد ذاته مساهمة في استمرار المجزرة ومحاولة لترهيب الناس من إسناد شعب يرزح اليوم تحت ظلم فظيع، والغريب في الأمر كله هو التجاهل المطلق للتاريخ ولدروسه التي تقف أمام أعيننا شديدة الوضوح وبالغة الأهمية.
لقد كان الغرب الاستعماري المتصهين بمجمله هو الداعم الأساسي لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وكان الكيان الصهيوني أحد أشد الداعمين لهذا الفصل العنصري ولكن مقاومة مواطني جنوب إفريقيا وحركات التحرر التي بذلت آلاف الشهداء وأصعب أنواع المعاناة قد انتصرت في النتيجة وأنهت العنصرية والفصل العنصري مع أن كل قادة تلك الحركة وكل المناضلين في سبيل الحرية تمّ إدراجهم على قائمة الإرهاب في الولايات المتحدة، وها هي جنوب إفريقيا تتصدّر الضمائر الحرة في العالم للدفاع عن الشعب الفلسطيني ووضع حدّ لحرب الإبادة المشينة التي يتعرض لها، فقط لأنه شعب يرفض الذل والاحتلال والاستعمار. أوَليس هذا درساً مهماً على الدول الغربية أن تفهمه وهو أن الحق سوف ينتصر في النهاية وأن كل التهويل والادعاءات ووصم المقاومة بالإرهاب لن تجدي نفعاً، وأن إثارة الخوف والرعب والابتزاز وإطلاق شعارات معاداة السامية للتغطية على جرائم وحرب إبادة لن تجدي نفعاً؟
لقد ناضلت كل شعوب الأرض ضد الاحتلال والاستعمار، وها هي الهند التي كانت مستعمرة بريطانية تطمح أن يكون اقتصادها في المستقبل القريب ثالث اقتصاد في العالم، ولقد أيقنت شعوب الأرض قاطبة أن الاحتلال والهيمنة الغربية هما مصدر البلاء والفقر والتخلف ولا أحد يوافق ترامب على أن “إسرائيل” وأميركا تمثلان قمة الحضارة الغربية، ولا أحد يتفق معه أن هناك حضارة غربية ما دامت تؤيد الإبادة والظلم وقهر الشعوب وترهيبهم وابتزازهم ونهب ثرواتهم.
صحيح أن شعوبنا في العراق وسورية واليمن وفلسطين قد دفعت ثمناً باهظاً لدحر الإرهاب المدعوم من الولايات المتحدة ومخابراتها وجيشها ولنيل الحرية والكرامة، ولكنها غيرت معادلات تاريخية استشراقية مغلوطة حول شعوبنا وبلداننا وأدياننا ولن يتمكن رئيس صهيوني للولايات المتحدة مهما كان قوياً ومصمماً أن يعيد عجلة التاريخ إلى الوراء.
ما زالت الانتخابات في بدايتها والأفضل لأي مرشح رئاسي أن يجد قضية أخرى يتكئ عليها بعيداً عن تسويف المصطلحات وبيع الأوهام وتشويه الوقائع وتبرير الجرائم الصهيونية المخزية بحق شعب أعزل ومقاوم.