بعد سنوات من الخلافات والخصومات السياسية العربية والإقليمية التي انعكست واقعاً اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً صعباً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بادرت المملكة العربية السعودية أخيراً إلى تبني سياسة "صفر مشكلات"، ليس على صعيد علاقاتها فحسب، بل تخطت ذلك نحو تبني وقيادة مصالحة عربية شاملة قبيل انعقاد قمّة جدّة في 19 أيار/مايو.
عمليّاً، إنّ "رؤية 2030" الطموحة لتطوير السعودية التي يعوّل عليها ولي العهد محمد بن سلمان باتت المتحكّم الأساسي في إستراتيجيات المملكة الداخلية والخارجية، فكان لا بد من تصفير المشكلات السياسية والعسكرية مع الجوار، وخصوصاً إيران وتركيا وسوريا، بهدف التأسيس لأكبر اقتصاد عربي وثالث اقتصاد على صعيد العالم.
بناءً عليه، كان سعي الرياض لعودة دمشق إلى جامعة الدول العربية قبل قمّة جدة وإصرارها على مشاركة الرئيس بشار الأسد شخصيّاً، ليعقد العرب للمرة الأولى لقاءً ذا بعد إستراتيجي - اقتصادي مؤثر في السياسة، فأضحت القمّة قمّتين: الأولى عربيّة، والأخرى بين سوريا وما تمثّله والسعودية.
ويبقى الأهم أنّ هذا الحدث سيتم بعيداً من سيطرة الغرب وتحكّمه وعرقلته الدائمة لملفي إعادة إعمار سورية وعودة النازحين، إضافة إلى أطماعه التاريخية - الآنية بموقعها الجغرافي وطموحاته في السيطرة عليها. ومن أجل ذلك، تآمر عليها وبذل أقصى ما فيه لتدمير اقتصادها القوي تمهيداً لوضع اليد على ما كان من المفترض أن يتبقى منها بعد الحرب.
وقبيل الدمار الشامل الذي لحق بسورية بدءاً من العام 2011، كان لهذا الدولة العربية مميزات اقتصادية - اجتماعية عدّة جعلتها رائدة في الشرق الأوسط والعالم:
1- اكتفاء ذاتي، كما كان مخططاً، في برنامج الحكومة منذ العام 2002، بحسب وزارة المال وصندوق النقد الدولي.
2- الثانية عالميّاً في إنتاج القطن، والثالثة عالميّاً في إنتاج الزيتون، والأولى عربيّاً في إنتاج القمح، وفقاً لتقارير منظمة الأغذية والزراعة (فاو) بين عامي 2007 و2010.
3- الأولى عربيّاً والرابعة عالميّاً بمستوى الأمان.
4- الأولى عربيّاً في الأمن الغذائي والبحث العلمي، بحسب تصنيفات الأمم المتحدة.
5- مستوى البطالة لا يتعدى 8%، وفقاً للبنك الدولي.
6- نسبة تشغيل اليد العاملة في حلب 94%.
7- سياحة مزدهرة بمعدّل 5.6 ملايين زائر سنويّاً.
8- صناعة أدوية تغطي 90% من الحاجة المحليّة، وتصدّر إلى 34 دولة، وفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية عام 2010.
9- ناتج محلي بلغ 64 مليار دولار عام 2010، شكّلت منه الإيرادات النفطية 7% فقطـ، بحسب البنك الدولي.
10- فائض في الإنتاج الكهربائي بمعدّل 5000 ميغاواط.
11- عدد المدارس وصل إلى 21 ألفاً، وفقاً لأرقام الأمم المتحدة.
12- نسبة الأميّة تقلّصت عام 2010 إلى 5%، بحسب تقارير الأمم المتحدة وبرامجها.
13- مركز صحي لكل 10 آلاف مواطن، ومستشفى لكل 6 آلاف.
وبالعودة إلى اليوم، تُعقد القمة العربية بأبعادها الاقتصادية - السياسية على وقع:
1- مصالحة إيرانية - سعوديّة برعاية الصين.
2- اتفاق على تبادل تجاري بين الرياض وطهران بأكثر من 100 مليار دولار كمرحلة أولى.
3- إصرار سعودي - عربي على حضور سوريا الاجتماع.
4- رفض الرياض مخططات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.
5- التحضير لانضمام سورية والسعودية وتركيا وإيران إلى منظمتي "بريكس" وشنغهاي.
6- تقدّم اقتصادي وسياسي لبكين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ خرجت الصين من أسوارها لتصبح قوة ديناميكية عالمية.
7- دور فاعل لتحالف "أوبك بلاس" في النفط والغاز.
8- صراع تركي مباشر مع الولايات المتحدة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
في المحصّلة، إنّ إعادة إعمار سورية هي باب لأي قوّة اقتصادية ناشئة في العالم. وإذا أراد الشرق والقوى الاقتصادية الصاعدة من آسيا إلى الخليج خوض هذه التجربة، فسنكون بلا شك أمام نموذج أفضل في الخيارات والتوجهات والتنوع الاقتصادي من مشروع مارشال.
ويعدّ إعمار سورية، أيضاً، من المؤشرات على نجاح "رؤية 2030" وقوتها، وعامل نمو واستقرار للبنان والأردن والعراق والخليج، وصولاً إلى عمق آسيا، وقوّة متمايزة لمنظمتي شنغهاي و"بريكس" وتحالف "أوبك بلاس"، وسيساعد بلا شك بانتظام مشروع "الحزام والطريق" الصيني.
كذلك، إذا اكتمل مشهد المصالحة العربية بشكل واضح، وانضمت إليه مصر، فإنّ ذلك سيضع بلا شك حدّاً لقرن كامل من الصراعات في المنطقة منذ أيام "سايكس – بيكو"، كما أنّ للمصالحة الإسلامية (السعودية وإيران وتركيا) ببعدها المذهبي تداعيات كبيرة جداً على الشرق الأوسط، الذي سيشهد من دون شك نهاية للخلافات بأبعادها الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية، في تحوّل يحصل مرّة واحدة كل 200 عام.