كتب نارام سرجون مقالاً جاء فيه:
لست ممن يهوون تحقير الخصوم وإذلالهم بشكل مباشر.. لكنني أحدثهم عن النذالة والدناءة فيعرفون من كلامي أن النذالة شيء يلتصق بهم مثل جلودهم وأن الدناءة تسير في عروقهم مثل الدماء ويشمونها في أنفاسهم.
ولست ممن يستهويهم الهبوط الاضطراري في الكلام عند تعرض أجنحتي للرصاص المتفجر.. فلدي جناحان من اللغة لاينطويان وأحلق بهما حتى الشمس دون توقف وإن ثقبهما الرصاص.. لكن كم يغريني العدو الكريم والشجاع بإلقاء سيف لغتي أو إغماده وإنهاء المبارزة ولو مهزوماً كرمى فروسيته .. وكم كذلك يغريني كلام الأنذال بأن أفصد عروقه الفاسدة بحد السيف حتى آخر قطرة .. ومع هذا ماذا أفعل وكيف أتصرف عندما أجد أنني في رحلتي تحملني أجنحتي لأصل إلى كوكب ليس فيه بشر ولافرسان .. بل تسكنه القرود .. وتحكمه القرود .. وتحاكمني فيه القرود؟؟ !!
"كوكب القرود" الذي رأيته منذ أيام ووصلت إليه ليس اختراعي لكنه فيلم شهير من أفلام الخيال العلمي الذي يصور زمناً من المستقبل الذي تسيطر فيه القرود على كوكب الأرض وتعامل البشر على أنهم حيوانات أقل شأناً فتضعهم في أقفاص.. مشاهد الفيلم صادمة لأنها تقلب الناموس والطبيعة ويجد الإنسان نفسه لأول مرة يواجه نفسه وهو يتبادل أدوار الحياة مع الحيوانات التي تتمكن من أسره وإقفال الأقفاص عليه .. ويظهر الإنسان في داخل القفص فيما يكون الحيوان خارج القفص .. والفيلم الصادم صرخة استنكارية لما يمكن أن يصل إليه الإنسان إذا ظل مستهترا بالقيمة العظمى للإنسان حيث يفقد البشر حقوقهم الإنسانية وسلوكهم وينحدرون إلى مستوى القرود وتتسلط الحيوانات الدنيا على حياتهم ومصائرهم.
لايشك أحد في أن أحداث الفيلم خيالية ويغادر المشاهد الفيلم وهو يحس بالراحة أنه لايزال في عالم يحكمه البشر .. وهو لايتوقع إطلاقاً أن تتحقق نبوءة الكاتب والمخرج إلا في عالم المستحيل ..
ولكن عالم المستحيل يتحقق في عصر "الثورة" السورية.. ولايبدو كوكب القرود من عالم الخيال بل هو حقيقة من الحقائق التي يكتشفها الانسان في زمن الثورات الوهابية التي تكشف تفاصيلها وسلوكياتها أنها أوصلت الإنسان الذي سار في ركابها إلى الدرك الأسفل من الحضارة وإلى درجة متدنية من سلم التطور البشري وأنها جردت أصحابها من دينهم وصلاتهم وبشريتهم.
مدينة دوما التي اجتاحتها الوهابية عبر عصابات زهران علوش تحولت بسبب "الثوار الاسلاميين" الوهابيين إلى (كوكب القرود) الذي لن نضطر إلى السفر عبر الزمن إلى المستقبل حيث النبوءة تتحدث عن تراجع تطور النوع البشري وانفراد القرود بحكم الكوكب عام 3978 .. ونحن هنا لانحتاج إلى مركبة فضائية للوصول إلى كوكب القرود .. بل هو على بعد نصف ساعة من دمشق واسمه الحالي دوما .. الخيال صار حقيقة لايتخيلها حتى مؤلف الرواية بيير بول ومخرج الفيلم فرانكلين شيفر .. فماعرض في أسواق دوما عاصمة "الثورة" الوهابية من بشر في اقفاص يدور حولهم سجانون يتصرفون بهمجية الحيوانات.. منظر لايذكرنا إلا بكوكب القرود الخيالي حيث يصبح الإنسان سجيناً والقرود تمارس إهانته وتعذيبه وسجنه والتنكيل به وحرمانه من كل حقوقه كما لو كان حيواناً من الثدييات الرئيسة .
أضافت "الثورة" السورية إلى رصيدها الغني بالتوحش والحيوانية مشهداً جديداً ربما سيكون أكثر شهرة من فيلم نهش القلب البشري أمام كاميرا .. ولكنه ربما سيكون من أكثر المناظر إهانة للعرب والمسلمين ومؤشراً على إنحطاطهم الحضاري وتخلفهم وسيجعلهم في سوية الأنعام .. فقد رآهم العالم يأكلون القلوب ويذبحون الأطفال ويتسلون بقص الأعناق ويجمعون الجماجم ألعاباً لأطفالهم ويسبون النساء وينكحون ولايفكرون ثم ينحكون ولايفكرون ثم ينكحون ولايفكرون .. ولكنه سيتذكر هذا المنظر وليس في ذهنه إلا مشاهد فيلم (كوكب القرود) .. ويسأل هل أصل العرب والمسلمين قرود؟؟؟ وهل هم سينتهون إلى قرود؟؟ أم أن أصل القرود من ذلك الشرق المخيف؟؟.
إن منظر عرض البشر في أقفاص فضيحة إسلامية وعربية ومهينة لم ينتقده مثقف ثوري واحد ولارجل دين ولا أزهر ولاحرم مكي .. لأنه منظر يكاد يقول بأن هؤلاء الناس الذين يعيشون في الشرق ويدينون بالإسلام ويتحدثون العربية لايمكنهم أن يكونوا شركاء للبشر في الحضارة والحياة ولايمكن أن تعطى لهم الحرية لأن الحرية هي ممارسة قصوى للإنسانية .. وهؤلاء إذا ماحصلوا على أي سلطة وأطلقت لهم الحرية فإنهم سيحيلون العالم إلى كوكب خيالي حيث تسبقنا القرود في التطور وسيكون البشر في أقفاص تشبه اقفاص دوما حيث تتحقق نبوءة الفيلم بأن الأرض سيحكمها القرود ويتحول البشر الى حيوانات حبيسة.
المنظر الذي انفردت به دوما وهللت "الثورة" له ووزعت الصور والحلويات والزغاريد كأنه يوم من أيام عيد الأضحى السعيد أخجلنا من أنفسنا حيث ظهرت مدن العرب والمسلمين ليست مدناً بل حدائق حيوانات ومحميات طبيعية أو حدائق جوراسية منفلتة .. وأن من يسكن البيوت والعمارات هم قرود وأن من يمشي في الطرقات بهائم لاتفكر .. لأن من يحبس إنسانا أسيراً لاحول له ولاقوة في قفص ويتجول به متباهياً بحجة إقامة دروع بشرية لايمكن إلا أن يتجاوز كل الحدود الانسانية وكل المنطق.
ماظهر في دوما هو فقط قمة الجيل الجليدي من كوكب القرود الذي نكتشفه كل يوم .. لأن اكتشاف كوكب القرود سيوصلنا إلى كبار كوكب القرود .. فهناك مثقفون كثيرون يكتبون في تمجيد بطولات كوكب القرود .. وهناك موسيقيون يعزفون السيمفونيات لهم .. وللقرود إئتلاف واسع فيه إسلاميون ولحى وأساتذة في السوربون ومفكرون ومخرجون سينمائيون وممثلون .. ولكوكب القرود إعلام ومذيعون وفنانون وفنانات ومحطات فضائية.. وهناك برنامج خاص ببرامج القرود يسمونه (الإتجاه المعاكس) .. وفيه يتجه كل شيء عكس الطبيعة .. فالقرود تقدم البرامج وتستضيف القرود لمناقشة البشر وإفحامهم .. وهناك أكبر مملكة للقرود في هذا الكوكب أسسها ملك هذه القرود عبد العزيز آل سعود.
مارأيناه في دوما هو الحقيقة التي قد لايعترف بها الكثيرون .. وهي أن "الثورات" الاسلامية الوهابية قد حولت بلداننا إلى كواكب للقردة .. وأن استرداد الصفات الإنسانية للمجتمع ليست مهمة عابرة ويمكن تأجيلها بل مهمة مقدسة وجليلة ومسؤولية كل فرد وكل مواطن.
مالفت نظري في منظر أقفاص دوما أن غريزة "الثوار" وشبقهم للثأر والتشفي جعلهم يشيدون البناء ويهدمونه.. فمنظروهم يكتبون عن سورية الواحدة .. والشعب السوري الواحد .. ويكتبون عن أن "النظام" يستغل الأقليات ضدهم .. ولكنهم ماإن يملكون سلطة على الأقليات فإنهم لايقدرون على مقاومة إغراء معاملتها بوحشية وعلى أن أفرادها حيوانات يجب حبسها في أقفاص .. بل وصل الغباء في إعلام "الثورة" أنهم يرددون منذ سنة نغمة مسمومة لإحداث خلخلة في إحدى الطوائف أن طائفة محددة هي التي تدفع الثمن الباهظ لحماية "النظام" وأن أبناءها وحدهم من يموت .. متجاهلين مئات الضحايا في حلب والرقة وتدمر ودرعا ودير الزور ممن ليسوا من تلك الطائفة .. ويدعون أبناء هذه الطائفة الكريمة العزيزة إلى التخلي عما يقال دعم السلطة والموت لأجلها .. ثم في صورة واحدة يخربون كل هذا الجهد الدعائي والإعلامي فهم يعرضون صور أسراهم من هذه الطائفة في أقفاص دليلاً على الكراهية القصوى والاحتقار والتربص بهم .. وهذا مايجعل المترددين في قتالهم من جميع الطوائف والمذاهب مندفعين أكثر للقتال ببسالة أكثر لأن ما ينتظرهم إذا ماهزموا هو .. الأقفاص والسكاكين .. وصورة دوما خير دليل ..
أنا كلي يقين أن هذه القرود لاتتصرف من وحي نفسها وليست فكرة الأقفاص من اختراعها .. فهناك غرفة عمليات إعلام نفسي تقود عملية التوحش لتدمير أي طريق للمصالحة والتسامح ورسم الحدود بين الناس بالدم والذل وإهانة الشرف .. تماماً كما فعلوا في العراق وليبيا .. حيث أظهر القرود العراقيون والليبيون وحشية لانظير لها في الثأر والقتال المتبادل وصوروا دون تفكير بسمعتهم كل عمليات التوحش والاغتصاب والتعذيب كما وجهتهم الغرف السوداء لغاية في نفسها .. مما خلق حاجزاً نفسياً هائلاً بين الناس أقوى من حدود الخرائط .. وأقوى من السياج الكهربائي ومن الجدران الفاصلة.. إنها حدود الكراهية واللاثقة اللامتناهية .. وحدود الشرف المهدور والدم المسفوك .. والعذابات المصورة.
مايبنيه كل من يعمل ويتعاطف مع "الثورة" والمشروع الوهابي هو كوكب للقرود العربية .. كوكب كان فيه يوماً موسيقاً وغناء وشعر وحب وتسامح وفيروز وأم كلثوم والسنباطي ونزار قباني ووو .. ثم حدثت فيه نكسة تطورية للبشر فانحدروا إلى مستوى القرود ومسخهم الله إلى غوريللات ..
وبعد كل هذا تسألوننا لماذا تقاتلون بضرواة .. ولماذا تتحدون العالم كله الذي أيد ثورة القرود؟؟ ..
إن أقفاص دوما تجيب عنا بأننا ببساطة وبإصرار بأننا نريد أن نبني كوكباً للبشر .. وأن نهدم كوكب القرود وأن نهدم مملكة القرود .. وسلالة القرود.
قسماً سنهدم كوكب القرود .. قسماً سنهدم كوكب القرود .. و"ثورة" القرود .
الإعلام تايم