في يوم تهطل فيه الثلوج على مدينة أدماها السواد و أعيتها الخيانة استيقظ حبٌّ طفل من رحم أم تمسكت بحياة لتهبها لولدها قبل أن يسرقها الموت منها كما فعل مع زوجها! تمسكت بحبل الحياة فقط لتطعم ابنها...فقط لتحمي ماتبقى لها من نور في عينين أعماهما الجوع و الظلم و البرد و القهر! هكذا باتت كتاباتنا...استغربْتُ من نفسي حين قرأت ما كتبت أعلاه لأتفاجأ أنّ نمط كتاباتي و خواطري قد تغير وتبدّل ليكون مستوحىً من واقع مرير نعيشه!
جلّ ما أردت أن أكتب هو قصة حب نبتت رغم الثلوج و العواصف و أزهرت رغم البرد و الدماء! أي حال وصل إليه بلد اعتدنا فيه أماناً و نعيماً و خبزاً و فرحاً! أم أننا كنا نعتقد أنه أماناً و نعيماً و خبزاً و فرحاً! ماعدنا ندري شيئاً و لاندري على أي أرض نقف و أي جهة نناصر!
استوقفتني كلمة "أرض" هل نحن أهلٌ لهذه الأرض؟ هل نستحقّ رحمة الله فينا؟ هل نستحق الحياة؟ أم أن حتى الموت كثير علينا! أسئلة تجوب خاطري و خاطر كل من تبقّى على رقعة الأرض هذه! هي أسئلة تستوقف كل من بقي فيه رمق من حياة هنا!! طفل يجوب عاري القدمين هنا...منذ يومين فقط...استوقفني يخلع حذاءً أو ماشابه في قدمه...ليخلع جورباً أو ماشابه في قدمه ليجفّفه و يعيد ارتداءه في هذا البرد! باعني خبزاً وقف ساعات ليشتريه... جمدت الدمعة في عيني و أبت ملامسة خدي فقط خشية البرد! و هذا الطفل...هذا الملاك يحمل ابتسامةً و أملاً جعلني أشعر - بما تبقّى لي من أحاسيس - كم أنانية أنا و كم أناني كل من على أرضي! حضنته لأدفّأه...فاجأني بالدفء الذي لديه...فاجأني كم حنون هو و دافئ هو...و كم باردة أنا!! اكتشفت أنني أنا بلا جوارب و بلا حذاء و بلا دفء...حضنني و قال لي تبدين في شدة البرد...هاك جوربي و هاك حذائي...وقفت مذهولة مشدوهة! نظرت إلى قدمي لأتفاجأ أنني عارية القدمين... حضنته بقوة و بكيت...بكيت...بكيت...قبّلني على خدي المدمي و طار بعيداً.... طار باحثاً عن العراة في بلدي... و ما أكثرهم! هذا الطفل هو بلدي...هذا الطفل هو أرضي...هذا الطفل هو ملاذي... مشيت بلا تفكير.
استوقفني رجل في ريعان العجز و الضعف و الوهن...تأملت وجهه ملياً لأجده ما يقارب الأربعينات من عمره... رمقني بنظرةٍ كلها حزن و انكسار و أسى ...عرض لي أوراق ما أن تأملتها اكتشفت أنها شهادات باسمه و عمر مهني عريق مذ كان يافعاً...سألته مابال هذه الشهادات؟ قال إنها للبيع... خذيها... أحرقيها... أتلفيها... تباهي فيها...فقط أعطني ثمنها تذكرة موت! فاجأني و قال: أختاه...عملت مديراً و عاملاً و مهندساً و طبيباً...عملت كل ما استطعت لأرفع بلدي عالياً و لم أكن أدري أنني غرقت في الحضيض و أن بلدي لم تعد بلدي و أن أرضي لم تعد أرضي!!! خذي شهاداتي و خبرتي و رجوتك بما تبقى فيك من إيمان سلميني للموت! حنوت عليه و أخذت شهاداته و وعدته أنها بأمانتي بطاقة قوة لحين يقف من جديد و يعاود بناء بلد انكسر كما انكسر هو... رمقني بأمل مشحون بسخرية و اختفى... لا أدري أين أو كيف و لكن اختفى!!! ماهي إلا خطوات قادتني لرجل كهل تكاد تقرأ في تضاريس وجهه تاريخ بلد كامل...و في عمق عينيه خطّت الحياة حزناً و فرحاً و هماً و أرقاً و انتصارات شتى و هزائم أكثر! أثارني الفضول و اقتربت منه...ما كدت أفتح فمي متسائلة حتى أومأ لي بأن أتبعه...تبعته صامتة غير وجلة... دخلنا كوخاً...أو مانستطيع تسميته بقايا كوخ...نظرت مليّاً في وجوه أشباه وطن دامٍ! أطفال بعمر الزهور عراة باكون جياع...و لكن يبتسمون! قال لي: أيتها الرمز الباقي هؤلاء أحفادي...و تلك المشدوهة هناك زوجتي...خسرت ولدي في هذه الظروف...و خُطفت ابنتي لا أدري متى و كيف...و زوجتي فقدت صوابها لفقدانها أخوتها و فلذات أكبادها...كنت عزيز قوم و ذا عز و جاه و مال...خسرت كل شي و وخطَّ الشيب شعري فجأةً! قدّمت لبلدي كما قدّم غيري ... قدمت قرابين و أضاحي ...و لم أعِ أنني كنت أضحّي بنفسي لشيءٍ لا أدري ماهو! أهي أرضي التي ضحيت بها أم لها؟ أهي نفسي التي ضحيت بها! أهم أولادي الذين قتلتهم أنا ؟ يا فتاة...انظري و انقلي حياتي - أو ما تبقى منها.... أغمضت عيني لوهلة لأفتحهما و أجد أنني أقف في الفراغ و لا أحد حولي!
عدت إلى منزلي و شعور بالخذلان يراودني ... شعوري بأننا خذلنا أطفالنا ... شعوري بأننا قتلنا أحلام شبابنا...شعور بأننا هدمنا تراث أجدادنا...شعور بأننا اعتقدنا أننا نقتل الظلم لنحيي العدل فإذا بنا نقتل ظلماً لنحيي فتنةً... نقتل رشوةً لنحيي إجراماً... نقتل حكماً لنحيي جبروتاً... نقتل حكماً لنحيي همجيةً... شعور راودني أننا قتلنا أنفسنا و انتحرنا و أودينا بروحنا لجهنم خجلت أن تحتوينا... شعور أرّقني أننا ذبحنا بعضنا و كلنا وعيٌ و إدراكٌ أننا نذبح أمنا و أبانا و أختنا و أخانا... شعور قهرني بأننا هدمنا مساجدنا التي كانت تصدح بأجراس كنائسنا و فتكنا بكنائسنا التي كانت تؤذن لنا! شعور أنّبني بأننا قتلنا و قصفنا و ذبحنا و فجّرنا أنفسنا فقط لنقلّد بشكل أعمى لا ندري من و لا كيف و لا حتى لماذا! أين ستكون نهايتنا ! و حتى الجحيم يأبى استقبالنا و الموت يخجل بنا... ويحٌ لنا ...و تبّت لما فعلت يدانا... أبي و أمي و أخي و أختي و صديقي و حبيبي و جدي و جدتي...هل أعدكم بأننا سنكفّر عن أخطائنا... أخطائنا المتكررة على مر العصور و الدهور...هل نعدكم أننا سنعمر ما خربنا و فتكنا؟ جلُّ ماأدريه أنني فقدت كل شيءٍ و تجردت من كل شيء عدا الأمل...الأمل في غدٍ أفضل لأطفال ماعاشوا يوماً...غدٍ يعوض ما تبقى منا ماعاناه من ألم...غدٍ لأرض أدعو الله و أتضرع له أن يسامحنا على فعلتنا النكراء...غدٍ أدعو الله أن يكون غداً.