لا شك بأن الجميع قد ملّ من الرواية المشروخة التي تقول إن «إسرائيل» كيان مستقل وليست مجرد دمية أميركية يتم تحريكها عن بعد، وأنها قادرة متى شاءت وتعارضت مصالحها الخاصة مع مصالح الولايات المتحدة الأميركية، أن تعصيها وتخرج عن طاعة أوامرها، والدليل على بطلان تلك الرواية أنه في كثير من الأحداث السابقة عندما كانت إسرائيل تحاول أن تتمرد أو لا تنفذ بشكل حرفي ما هو مطلوب منها تقوم القيادات العميقة في الإدارة الأميركية بتحريكها بوسائلها الخاصة وعن قرب ومن داخلها.
ضجّ الإعلام بكل أصنافه خلال الأيام الماضية، عن معصيةٍ ورفض إسرائيلي لطلب الولايات المتحدة إقامة «هدنة مؤقتة» أكدت عليها تصريحات نتنياهو بعد لقائه بلينكن بالقول إن «لا هدنة مؤقتة من دون إطلاق سراح الأسرى» وتأكيده أنهم مستمرون بحربهم بكل قوتهم وأن إسرائيل ترفض الهدنة المؤقتة التي لا تشمل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، هذه الأكاذيب والمطالبات الأميركية الزائفة بضرورة إقامة هدنة إنسانية مؤقتة أصبحت حكايات للعجائز يمكن أن تروى لأطفال صغار، فبلينكن الذي عبر المحيطات وجاء إلى «إسرائيل» ليأمرها سراً «امضي بتنفيذ مخططاتنا ولا تأبهي لشيء» وليجتمع مع العرب من «باب رفع العتب الإنساني وإكمال المشهد الدرامي» ليقول لهم: إن أقصى ما يمكن أن يذهب إليه هو دعم «هدنة إنسانية» للسماح بإيصال المساعدات وإجلاء المدنيين من الأماكن المحاصرة، فهو وضع الحد الأعلى، وحدّد أقصى حد للتنازلات التي يمكن أن تقوم بها إسرائيل، وحتى تلك التنازلات المؤلمة خرج نتنياهو بطلب أميركي ليرفضها علانية ويقول إن مجرد التفكير بهدنة إنسانية هو أمر غير ممكن وغير مقبول إسرائيلياً.. هذه الألاعيب والتصريحات ولغة الجسد والتعابير التي حرصت الولايات المتحدة وقادتها على إظهارها لإسرائيل وممارستها أمام الإعلام منذ بدء الحرب على غزة، ما هي إلا رسائل تعاطف مع أنفسهم ومع مصالحهم في المنطقة، وما رسائل الدعوة الكاذبة للوصول إلى هدنة ورفض «إسرائيل» لها إلا لأهداف داخلية في الولايات المتحدة الأميركية ورسائل مراضاة لبعض المعارضين للحرب من الديمقراطيين، بهدف القول إننا نسعى للسلم وإنقاذ المدنيين، ولكن «إسرائيل» الجريحة ترفض ذلك، مبررين رفضها بأنه جاء حتى لا يتم إعطاء فرصة لحماس لكي تلتقط أنفاسها.. وأي كلام عن معصية «إسرائيل» لأميركا هو كلام فارغ، فهل يجرؤ العبد على أن يعصي سيده؟
أميركا على لسان وزير خارجيتها تعتبر أن لـ«إسرائيل» كل الحق بالدفاع عن نفسها، ومن باب رفع العتب، وتضيف: إن «إسرائيل» ملزمة بحماية المدنيين، لكنها في الوقت ذاته وبهدف إيجاد تبرير لاستهدافها وتدميرها للبنية التحتية المدنية في غزة، تؤكد أن حماس هي المسؤولة وهي السبب بكل هذا الدمار لكونها تستخدم تلك البنية كمراكز للقيادة وتخزين الذخيرة.
في الباطن «إسرائيل» ربيبة الولايات المتحدة الأميركية وتابعة لها وتأتمر بأمرها، وهي شرطي المنطقة الذي تضرب وتهدد به من يعصي أوامرها، أما ظاهرياً فهي تحاول إظهارها كواحة للديمقراطية والسلام والرقي والإنسانية وكحليف استراتيجي لها وراعٍ لمصالحها، وما حربها وقتلها وتشريدها للفلسطينيين إلا دفاع عن حقها ووجودها الشرعي في أرضها الموعودة.. وما دعم أميركا لـ«إسرائيل» وتركها تبطش بالمنطقة إلا سياسة متعمدة تعمد من خلالها إلى إرسال رسائل للأقطاب العالمية الجديدة، وخاصة خلال هذه المرحلة الحساسة من مراحل التكون الجديد لأقطاب العالم وانتقاله من مرحلة القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب.
أميركا التي بنت لنفسها على مدار العقود الماضية قواعد عديدة في المنطقة، سواء ضمن اتفاقيات إكراهية أم على أراض احتلتها بالقوة، كانت جميعها تهدف إلى إنشاء شرق أوسط جديد ضمن سياسة الفوضى الخلاقة، كانت قد تحدثت عنه سابقاً ومطولاً وزيرة خارجيتها السابقة كوندليزا رايس، وما أحداث المنطقة ككل إلا تطبيق عملي لمخطط مرسوم منذ سنين، ربما جاء أوان تطبيقه.
شرق أوسط تحكمه أميركا عن بُعد بوساطة «إسرائيل»، يكون عبارة عن ممر آمن لخط حرير جديد يمر من قناة بن غوريون ويربط بين خليج العقبة والبحر الأبيض المتوسط، وميناء هذا الخط على ساحل غزة الجديدة، وعمليات التدمير للبنية التحتية والتهجير القمعي للسكان تأتي ضمن مخطط وجدت الولايات المتحدة الأميركية فرصة لتطبيقه في هذا العدوان.
المصدر : صحيفة تشرين السورية
د. منذر علي أحمد