أكثر ما يميّز عالم اليوم هو القلق الذي يعتري معظم سكان هذا الكوكب، قلق على رحيل الماضي من دون أن يؤسس لتواصل دائم مع الحاضر والمستقبل، وقلق على جيل كأنّما تمّ اجتثاث جذوره من دون أن تنبت له جذور أخرى، وقلق على انحسار القيمة العليا للإنسان والكرامة الإنسانية حتى في أعين رعاتها والساهرين عليها أو المكلفين بالسهر عليها من مجتمعاتهم ومؤسساتهم، حيث أصبح الجميع أرقاماً أو جملة وفئات من البشر يتمّ التنويه إلى مصيرهم بعبارات عابرة، وليس أدلّ على ذلك ممّا يحصل لأهلنا في غزة حيث تمّ قتل مئات الآلاف بمن فيهم عشرات الآلاف من الأطفال والرضع حتى اليوم من الذين قضوا من دون أن يعرف العالم أسماءهم أو يسجّل الحاضر أي شيء عنهم أو عن تاريخهم وأحلامهم، وكذلك عشرات الآلاف من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال البغيض الذين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل والإهانة للكرامة الإنسانية، وتجويع يمتهن كل حرف من حروف الكرامة الإنسانية ويظهر أن العالم برمّته وليس فقط الحكومات الغربية المتصهينة ولا الإعلام الغربي المسيّر بالمال الصهيوني وحسب، قد تخلّى عن مسؤولياته اتجاه حياة وحقوق وحرية وكرامة بني البشر كافة.
علّ هذا يفسر المشادات التي أحدثها إطلاق سراح مدير مجمع الشفاء الطبي في غزة الدكتور محمد أبو سلمية، بعد سبعة أشهر من اعتقاله، لأنه مثال حي عن الظلم الصهيوني والتمادي في الإجرام، ولأنه اسم ووجه وشخص تثق الناس بما يقول، فهو صاحب مبدأ وأخلاق ومن الخطير أن يعرف الناس في أنحاء العالم أشخاصاً بأسماء ووجوه ومصداقية تتحدث عمّا يجري فعلاً في المعتقلات الصهيونية التي فاقت معتقلات النازية بأشواط من الوحشية وما أكثرها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلّ هذا هو السبب الخفي وراء ارتكاب قوات الاحتلال جرائم غير مسبوقة بتجريف أي مركز له علاقة بالذاكرة الثقافية أو المجتمعية أو المهنية في فلسطين، لأن الهدف ليس فقط إبادة البشر، وإنما إبادة الذاكرة بما فيها الذاكرة التاريخية الأصيلة التي تحمل عطر المكان ومكونات الهوية المتوارثة عبر قرون، والتي تقضُّ مضاجعَ المحتلين المستحدَثين العابرين في الأرض والذين لا يعرفون جذوراً ولا يشمون عبق التاريخ ولا يعرفون للمكان نكهة أو قواماً.
وللردّ على هذه الآلة الساحقة لإنسانية الإنسان، لابدّ أن نتبنى نحن المدافعون عن الكرامة البشرية وحق الإنسان في العيش الحرّ الكريم بعيداً عن الحرب والدمار والامتهان والتنكيل وأن نسجّل ونبجّل كل اسم قضى من أجل نصرة الحق، ولابد لنا أن نشكّل جيوشاً من كتاب القصص ليقصّوا على البشرية قصص هؤلاء الذين ضحوا بأنفسهم وذويهم في سبيل إعلاء راية الحق والذين جاهدوا وصمدوا وصبروا فغيّروا معادلات القوى ووضعوا تعريفاً جديداً للحروب، حيث لا تستطيع قوة مهما طغت وتسلّحت وتمّ رفدها بكل أنواع السلاح والمال، أن تكسر إرادة مقاومين لا يمتلكون إلا الإيمان بالله والأرض والتضحية بأنفسهم كي لا يعبر الظلم على أجسادهم ويطول آخرين أبرياء. يجب ألا يبقى الضحايا والمقاومون من دون أسماء وأن تتمّ الإشارة إليهم كمجموعات وعشرات بل أن نفرد لهم صفحات السجلات التاريخية ولكل ما عملوه وكل ما حلموا بإنجازه وكل ما ضحوا به وقاوموا من أجله وكل المثل التي جسدوها بإيمانهم وأفعالهم.
وكما أنه من المتعمّد من المعتدين وقوى الظلام أن يحوّلوا البشر إلى أشياء وأن ينزعوا عنهم كل صفة إنسانية تدفع للتعاطف والمشاركة، فإن بعض الحكومات الغربية المتصهينة الداعمة لهذه الأعمال الإجرامية تمارس نوعاً آخر من القهر وسلب الكرامة على شعوب بلدانها ذاتها، فتمضي في غيّها وتمارس كل أنواع الحروب والقتل والعنف متجاهلة تماماً آراء شعوبها وحاجة هذه الشعوب إلى سياسات وإنفاق مختلف تماماً عمّا تقرّه حكوماتهم لأسباب لا علاقة لها بمصلحة الشعوب الحقيقية.
ففي الوقت الذي يركز فيه المجمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة على اختلاق الحروب واستمرارها من أجل جني التريليونات من الأرباح وتمويل وتطوير صناعات الأسلحة، فإن هذا يأتي على حساب كل المجالات المجتمعية الأخرى من تعليم وصحة وبنى تحتية، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال تعاني قطاعات التربية والتعليم والنقل والصحة نقصاً شديداً في الموارد ويطالبون منذ سنوات بتخصيص نسبة بسيطة من الضرائب لهذه القطاعات بدلاً من تطوير صناعة الأسلحة التي تستخدم في الحروب، لكن ذوي الشأن يعملون على مدار مختلف تماماً من مدار شعبهم ويواصلون الاهتمام بزيادة ثرواتهم والحفاظ على مناصبهم وإيصال شركائهم إلى مواقع اتخاذ القرار حتى كأن انفصاماً حقيقياً حاصل بالفعل بين الحكام والمحكومين.
وقد ظهر هذا الأمر جلياً أيضاً في الانتخابات التي خاضتها فرنسا وبريطانيا حين أصبح واضحاً أن متخذي القرار لم يكونوا على صلة مع الناس التي تتظاهر في الشوارع ويُسمح لها بذلك من دون أن يتمّ الإصغاء إلى ما تريد ناهيك عن وضع ما تريده على جدول الأعمال ومناقشته وربما تنفيذه لما فيه الخير العام، وقد شهدنا هذا الأمر بكل وضوح من خلال التحركات التي عمّت الجامعات الأميركية دعماً لأهل فلسطين، وبدلاً من الاستماع لهؤلاء الذين يمثلون نخبة المجتمع الأميركي تمّ قمعهم بطرائق مهينة والتحقيق مع رؤساء الجامعات وسحل أساتذة وعمداء كليات ورؤساء أقسام على الأرض في صورة مهينة ليس لهؤلاء، وإنما لحقيقة الحكم في الولايات المتحدة وديمقراطيته المزعومة.
والدروس المستفادة والمستقاة من ضحايا من دون أسماء وحكومات من دون شعوب هي أن هذه الأساليب وإن أعطت ثماراً وهمية للقائمين عليها فهي من دون شك غير قابلة للاستمرار وسيؤدي العمل بها وتجاهل الواقع والانفصام المفرط عن موجبات الأمور إلى نتائج كارثية لا تحمد عقباه، إذ لا يمكن للظلم والقتل والاحتلال أن يؤسس لديمومة الظالم مهما عتى أمره وبلغ جبروت قوته أبداً، وبدلاً من العودة خطوة إلى الوراء والتفكير بنوع من الحكمة عمّا يمكن فعله، يمثل الاستمرار بهذا الأسلوب انتحاراً حقيقياً للظالم وأدواته وحين يطوي الزمن بعضاً من صفحاته لن يتمكن أحد من الفصل بين النتائج والمسببات وسيُختزل الزمن الفاصل بينهما حتى أنه لا يكاد يُرى، والأمر ذاته ينطبق على حكومات تظن أنها تعمل من أجل تعزيز قوتها، في حين هي تراكم الخطأ تلو الخطأ الذي لن ينفع معه تراجع بعد حين، بل سيؤدي إلى انهيار كامل للمنظومة برمتها وسيعمل الشعب حينها على بناء منظومة جديدة بحكام ومثل وقوانين ومؤسسات لا علاقة لها بما تمّت المحاولة للحفاظ عليه من قبل من سبق.
سبب الأسى والحزن والألم والإحباط في عالم اليوم هو أن الطغاة يتجاهلون كل القيم والقوانين التي أفرزتها الطبيعة وكل الدروس التي كرّرها التاريخ مراراً وتكراراً وقد يكون هذا نتيجة جهل أو نتيجة عجز لأنهم يقتربون من النهايات ولا قدرة لهم اليوم على تغيير المسار فقد ذهب قطار أعمالهم بعيداً جداً في غيّه ولا مجال لديه سوى استكمال طريقه إلى الهاوية التي سيصلها حُكماً بعد حين.