في كتابه: "فهم الشرّ: دروس من البوسنة"، استخدم الكاتب كيت داوت مصطلح "إبادة المجتمع" والذي يصلح استخدامه على عراق 2003 وعلى غزة 2023-2024 وعلى ليبيا 2011، وكانت المحاولة نفسها جارية على سورية منذ 2011، وعلى اليمن إلى حدّ اليوم. وإبادة المجتمع هو بالضبط ما نشعر به يومياً ونحن نتابع إبادة يومية في غزة ليس للنساء والأطفال والمدنيين العزّل فقط، وإنما لكلّ الأعراف والقيم والتقاليد والمؤسسات والطقوس ومناهج الحياة ومبادئها العريقة وموروثاتها التي شكّلتها أجيال بعد أجيال حتى وصلت إلى هنا. إذ من الواضح اليوم أن الهدف في غزة وفلسطين ليس القضاء على الشعب فقط بل على التاريخ والذاكرة والهوية والثقافة وكلّ ما تحمله معها من قيم وأخلاق.
لقد شعرتُ خلال الحرب الإرهابية على سورية أنّ المقصود ليس نظام الحكم ولا حتى السياسة التي يتّبعها، وإنما المقصود هو إبادة سورية بكلّ ما تحمله من مكوّنات ثقافية وتراثية عميقة وعريقة تشكّلت عبر آلاف السنين ولا يمكن العمل على استبدالها إذا ما تمّ تدميرها. ولذلك سارعتُ عام 2016 إلى تأسيس مؤسسة "وثيقة وطن" من أجل تأريخ وتسجيل ما يحصل كي لا يتمكّن أحد من تضليل الأجيال القادمة عمّا جرى فعلاً في بلادهم، وكيف ننقذ ما نستطيع إنقاذه من ذاكرة الناس والحِرف والعمارة والمأكولات والطقوس المجتمعية والدينية وكلّ الثروات التي حبا الله بلادنا بها، وما أكثرها وما أجملها وما أقدس هويّتها وفرادتها.
ولكنّي أشعر اليوم وبعد أن عايشت ما جرى للعراق العزيز بألم وحسرة وبعد أن واجهنا القذائف والموت والدمار في عشرية النار في سورية، وبعد أن اطّلعنا على بعض ما حلّ بليبيا العزيزة واليمن الصامد، وتخدّرت قلوبنا من الألم والإحباط على ما يجري لشعبنا الفلسطيني الأبيّ، رغم المساندة من محور المقاومة وخاصة من اليمنيين والعراقيين واللبنانيين النجباء الأشاوس. أشعر أن المخطّط أكبر وأخطر بكثير ممّا توقّعنا وخشينا جميعاً وأخطر ممّا يراود بال أحد؛ فالمخطّط هو محو العروبة من هذه المنطقة بكلّ خصائصها ومكوّناتها وتاريخها وذاكراتها وعطاءاتها التي شكّلت هويتها على مدى قرون، ورفدت العالم بروائع الفكر والفلسفة والرياضيات والطب والتجارة والفنون والعمارة والدين.
يقول المثل الشعبي: "الله لم يُرَ ولكنه بالعقل انعرف"، واليوم لا يمكن لنا أن نرى نهاية ونتائج ما يخطّطون له ويقومون به إلى أن نصل أو يتمَّ إيصالنا إلى نهايته حين لا ينفع الندم ولا ينفع العمل، لأن الوقت سيكون متأخراً جداً لإنقاذ أي شيء وترميم أي شيء، وسنكون في ذلك الوقت قد خسرنا كلّ المقوّمات التي يمكن أن تساعد على النهوض، بحيث نجد أنفسنا أمام واقع جديد مرسوم ومدروس ومجهّز بكلّ البدائل الخسيسة لثقافتنا الغنية وهويّتنا الحضارية وتراكم القيم التي هي ذخر إنسانية الإنسان في كلّ مكان، وسدٌّ منيع في وجه محاولات تشويه وتقزيم الإنسانية والعبث بخلق الله وقيادتهم في ظلمات الضلال بحيث لا تقوم لهذه الأمة قائمة بعدها.
وهذا المخطّط الجهنمي ضدّ الوجود العربي والعروبة في كلّ أقطار الوطن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج يفسّر كلّ ما يجري منذ 11 أيلول في الولايات المتحدة، والهجمة المفتعلة الشرسة على العرب والمسلمين وعلى كل ناطق بالعربية في أي مكان، ويفسّر كل الإبادة التي تمّ ارتكابها بحق الدولة العراقية والمجتمع العراقي تحت شعارات مزيّفة من ديمقراطية وحقوق إنسان، ويفسّر ما جرى لليبيا والسودان واليمن والمحاولة الشرسة ضدّ سوريا، وما يجري اليوم في غزة والضفة الغربية وفلسطين عموماً.
لقد برهنت الأشهر العشرة الماضية أنّ الاحتلال الصهيوني ممعن بحرب الإبادة هذه، وأنه لا يريد حلاً ولا تفاوضاً ولا اتفاقاً، ولكنه يستخدم كلّ السرديات والمناورات فقط لكسب الوقت وإمعانه بقتل الشعب الفلسطيني وتجويعه وتدمير ذاكرته وهويته مع تلاعب بمصطلحات ونصوص ومناورات تصبّ كلها في خدمة استمرار حرب الإبادة الموصوفة في غزّة وفلسطين.
كنت أتساءل خلال حرب الإرهاب على سورية لماذا يقتل الإرهابيون المعز الشامي وغنم العواس، ولماذا يهدمون مأذنة مسجد تاريخية عمرها آلاف السنين ويدمّرون الموروثات الثقافية والتاريخية في العمارة والحياة، ويستهدفون آثار تدمر والعيش المشترك فيهجّرون الآشوريين والسريان والمسيحيين؟ فقط لنكتشف أن الهدف كبير وخطير وها هو يحدث يومياً أمام أعين العرب جميعاً في غزة من تجريف للذاكرة التي تحتضنها المباني والمؤسسات وقتل العلماء والأطباء والإعلاميين والأطفال بما يشكّل إبادة موصوفة لمجتمع بأكمله.
إذ كما يقول مؤلّفو كتاب "محو العراق" (مايكل أوترمان وريتشارد هيل وبوبل ويلسون): لا يتمّ تدمير البيوت فحسب بل هيبة المنزل، ولا يتمّ قتل النساء والأطفال فحسب بل المدينة أيضاً بطقوسها ومناهج حياتها وموروثاتها ومبادئها العريقة، ولا تتمّ مهاجمة مجموعة من الناس بل تاريخهم وذاكرتهم وقيمهم وأخلاقهم، حيث يتمّ هدم قيم التضامن والتسامح المذهبي والعيش المشترك الجميل ليحلّ محلها الارتياب والخوف وانقلاب المقاييس والمعايير، ليصبح النبيل العفيف غبياً واللص ذكياً والشريف أهبل.
لقد روى لي صديق عراقي وهو كاتب ومؤلف عريق أنّ صدام حسين، الموصوف بالديكتاتوري، كان يشهد على وزرائه يؤدّون القسم وفجأة رفض أحد الوزراء تأدية القسم فسأله صدام: لماذا؟ قال لأنّي مسيحي ولا أقسم على القرآن. فقال أتوه بالإنجيل ليقسم عليه. لقد اختاره وزيراً من دون أن يعرف أنه مسيحي، وهذا جزء من الثقافة المجتمعية العربية الحاضنة لكلّ الأديان السماوية والمذاهب المتفرّعة عنها، ولهذا كنا نجد قبل الحرب على العراق فرقة الصابئة وهم من قبل الإسلام يؤدّون طقوسهم ويعيشون ثقافتهم المتوارثَة الخاصة بهم، وهذه هي الثقافة التي نشأ عليها معظم العرب وخاصة في بلاد الشام والعراق واليمن والسودان ومصر وهي مستهدفة اليوم بأصولها وفروعها بشتّى أنواع الاستهداف.
إذا كان العرب اليوم في كلّ أقطارهم وبعد كل ما شاهدوه وعايشوه خلال هذه العقود الثلاثة لم يقتنعوا أن المستهدف هم جميعاً بهويتهم ووجودهم وتاريخهم وتراثهم وموروثاتهم، فإن هناك مشكلة حقيقية يعانون منها. الهدف ليس العراق فقط وليس السودان فقط وليست ليبيا فقط ولا مصر فقط ولا سوريا فقط ولا فلسطين فقط، بل الهدف هو كل هؤلاء وغيرهم من المنتمين إلى أمة لغة الضاد، وتجريف كلّ شاهد على حضارتهم واستبداله ولو خلال الخمسين أو المئة عام المقبلة بالأساطير الصهيونية المنسجمة مع المركزية الغربية الطامحة إلى وضع يدها عملياً على ثروات هذه المنطقة.
ولذلك فإنّ من وقف مع العراق فقد وقف مع نفسه، ومن وقف مع سورية فقد وقف مع نفسه، ومن يقف اليوم مع فلسطين فهو يقف مع نفسه. لأنّ مخطّط إبادة المجتمع العربي يستهدف الجميع، وقد عهدنا أعداءنا يخطّطون لمئة سنة مقبلة، بينما يمزّقون العرب شيعاً وأقواماً وقبائل وفصائل لتسهيل الانقضاض عليهم وإبادة حاضرهم وإرثهم، فهل من مستجيب؟