وجهات نظر

أصحاب النصر .. زهر البيلسان

نوار هيفا


يتوقف الزمن عندهم، ليس لأن الحياة لاتستحق العيش بعدهم، بل لأن رحيلهم يتوجب للوقت أن يتجمد وتتجمد بوداعهم الذاكرة، فهم أصحاب النصر، وهم خالق الاستمرار، ووحدهم يبقون كزهر البيلسان.. هم قلب أم يتوجع، وجرح والد ينزف، ومقلة أخوة تدمع، وأمل طفل يحلم، خلف جداران منازل وطني قصص تحكى، وروايات محاكة بعبق الياسمين السوري الذي أضاف عليه دم الشهيد ريحاً سرمدياً.
فكم من طفل استقبل نفسات الحياة الأولى بالوقت نفسه الذي كان والده يتلفظ نفسات حياته الأخيرة، وهنا تعجز العبارات لمواساة الزوجة الأم، بالحيرة بين تعزيتها لفقيدها، وبين تهنئة لها بمولودها الجديد الذي من غير ذنب حرم من والده وفاز باسمه ولقبه وشرف شهادته.
وكم من قلب أم حرم من فلذة كبده بالفراق المضني والمسافات الشاسعة دون أمل باللقاء أو لمسة حنون على خدها يطفئ بها نار الشوق الملتهب، أم تختم قصتها بأن كل شهيد هو ابنها بعد أن حرمت من رؤية جثمان ولدها أومعرفة مرقده الأخير.
هي قصص لا نعرف من أشدها ألم، عندما نرى والداً حث أصغر أولاده على الالتحاق بإخوته، للدفاع عن وطننا الغالي، دون معرفته بأنه سيودع آخر ولد لديه ويهديه قرباناً للوطن، الذي يرخص له الغالي والثمين، إلا أنه لم يفز بجائزة المقدم الأكبر التي اعتاد الشعب السوري فيها روح المنافسة كوالد قدم وحيديه ونال هو معهم شرف الشهادة، فكان لقبهم نسر وجناحيه.
وهنا نتمنى أن يكون لقب المقدم الأكبر يحتمل فائزين أو أكثر عند رؤية أم أودعت الثرى انجاز حياتها الوحيد الذي لاتملك أثمن منه سوى لقبها بأم الشهيد الوحيد.
ان الأقلام تجف والعبارات تتوقف ويعجز اللسان عن الوصف، بقصة عشق طفولية لم يكتب لها الحياة إلا عشرة أيام فيودع المعشوق حبيبته، قائلاً اعذريني وطني وترابه أغلى وأبقى، هي قصة روتها أصغر أرملة سورية قائلة لم يجف كحل عيني من زفافي، ودعني حبيبي ورحل. جل الروعة يكمن في قصص بطل سطر للبطولة ملاحم وعبر، يرويها لنا رفاقه الذين ناولو شرف الشهادة بعده فتحدثوا عن بطولاته ومعاركه التي جالت معظم المحافظات السورية، مُخفياً حقيقته عن أهله وذويه..خوفه عليهم وقلقه كخوفه على حبيبته سورية، فكان يتقدم بجسده الأعزل على عناصره ليؤمن لهم معبر خال من القنص، باختصاصه قناص دفعته، حريصاً على سحب رفاق السلاح ممن ينال شرف الشهادة قبله غير آبه بمصيره.
والجميل بأن الشهادة فيكي سوريتي لم تقتصر على الرجال فقط، وأنت مصنع الحرائر والجدائل المزينة بعبق الحرية، هي أم وطفلها قصة ترويها جدته لنا..حرمني الخالق من مولود ذكر إلا أنه عوضني بحفيد أترقب خطواته الأولى وأحلم معه بالغد المشرق، لتأتي قذائف الغدر وتنال من ابنتي وابنها والذنب عشقهم لسورية وياسمينها.
لم يقتصر نضال المرأة السورية عندما أصبحت أماً ثكلى ودعت فؤادها، أو زوجة مفجوعة أوجع الفراق قلبها، ولا حتى أختاً فاض حنانها، أو ابنةٌ اعتزت بشهادة أبيها، بل كانت خنساء ساخية بعطائها وأضافت للتضحية طعماً آخر فحاربت بجسدها إلى جانب رجال الحق وذاقت شرف الشهادة بعزيمتها، تاركةً أطفالها يشهدون عرس بلادها في ساعة النصر، وتفننت بتحديها فكانت الكلمة التي توجع أكثر من الرصاص، عندما وقفت أمام عدوها بحبرها ومدادها وعدستها لتنقل الحدث.
هنا تخجل السطور فيندفع ربيع الشباب المثقف تاركاً كرسيه الدائر ليحمل سلاحه الثائر والغصة تكون في قلب أمه التي روت أنها الأن تحمل شهادتين لنجلها شهادة ميلاد نصر بعرسه وشهادة تفوقه الأكاديمي إلا أنه اختار بندقية ورصاصة فكان عريساً لأجمل عروس لاتختار إلا أكثر الشباب رجولة.
تسير في شوارع سورية يلفتك جدار أسود زينته صورة لسبع شهداء وزهرة، تاركين خلفهم أرملة عاجزة لاتقوى إلا القول الوطن غال ويستحق منا الكثير.
هي فلسفة عشق إلهية، ضاقت عن تفسيرها أمم ودول فهذه ثلة قليلة من كتاب العجائب لا تقرأها إلا في بلد تأصلت فيه روح الشهادة والعجز الأكبر في قصص لم يكتب لها نهاية، يقول لك صاحبها أخجل من بخلي في تقديم أطرافي أو نظري فقط وكنت الشهيد الحي فأمنا سورية تستحق الروح والجسد.
نامي الآن ياروح في مرقدك الأخير ولتنعمي سوريتي بالنصر الكبير.
"مهداة إلى أرواح الشهداء في عيدهم"

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=8210