وجهات نظر

النتيجة الأهم للحرب المصغّرة في إدلب

فارس الجيرودي


الاعلام تايم - الوطن

 

لعل النتيجة الأبرز التي أسفرت عنها الحرب المصغرة التي خاضها الجيش العربي السوري وحلفاؤه بمواجهة الجيش التركي الذي قاتل جنباً إلى جنب مع تفرعات تنظيم القاعدة الإرهابي الدولي في إدلب خلال الشهر الماضي، كانت كسر الوهم القائل بعدم إمكانية الاشتباك عسكرياً مع الجيش التركي القوة الثانية في الناتو، واستحالة إيقاع خسائر مؤثرة به وإجباره على التراجع، ومن ثم استحالة تحرير الأراضي السورية التي يتموضع فيها الجيش التركي عبر القوة، وهذا أصلاً كان رهان القيادة التركية التي حاولت مسابقة الجيش العربي السوري على الانتشار في مناطق من شمال سورية وذلك بعد أن بدأ بنيان الجماعات التكفيرية التي دعمتها بالانهيار والتفكك منذ نحو السنتين.


فاتساقا مع سنن الصراعات السياسية ومع طبيعة الأشياء جاء اتفاق وقف إطلاق النار الأخير الموقّـــع من قبل الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان في إدلب انعكاساً لما انتهت إليه موازين قوى في ميدان المعركة، ولم يتطرق الاتفاق إطلاقاً للمناطق التي حررها الجيش العربي السوري خلال الشهر الأخير من المعارك، والتي تمثل تقريباً نصف مساحة محافظة إدلب وتضم 215 بلدة ومدينة، وذلك عكس ما وعد به أردوغان القاعدة الشعبية التركية والإخوانية المؤيدة له «إجبار الجيش العربي السوري على العودة لحدود سوتشي».


بل تضمن الاتفاق التزامات تركية بتصفية التنظيمات التكفيرية التي قاتل معها جيش أردوغان خلال الشهر الماضي وبإبعادها عن أهم مواقعها الحصينة في جبل كباني وأريحا وجسر الشغور على جانبي طريق M4، مما يضع الرجل أمام أمرين أحلاهما مر، إما خوض قتال مرير مع حلفائه، أو العودة معهم لتلقي ضربات الجيش السوري وحلفائه، وهذا ما يبدو مستبعداً نظراً لما تسرب عن حجم الخسائر التركية وأعداد قتلى الجيش التركي خلال المواجهة الأخيرة والتي يبدو أنها أكبر بكثير مما أعلن.


من جهة أخرى ظهر مجدداً ومن خلال اتفاق وقف إطلاق النار الحرص الروسي على إعطاء فرصة جديدة ليس لأرودغان الشخص إنما لتركيا، الدولة العميقة والجيش والقوى الشعبية، لفصل نفسها عن مشروع الإخوان المسلمين العالمي، هذا الحرص ليس نتيجة مصالح روسية اقتصادية خاصة مع تركيا كما يحاول الإعلام المعادي للدولة السورية أن يصور، فروسيا خسرت بسبب إصرارها على دعم الدولة السورية خلال سنوات الحرب الإرهابية التسع التي شنت عليها ما يقارب 100 مليار دولار نتيجة المضاربات السعودية في سوق النفط، كما رفضت موسكو عروض رشاوة ضخمة من قطر والسعودية قبلت دولة مثل فرنسا بما قيمته أقل منها بكثير لقاء أن تغض النظر عن الخطر على أمنها القومي والناتج عن دعم المشروع الإرهابي التكفيري في سورية، بل إن الحرص الروسي على إعطاء الفرص لتركيا يأتي في الواقع ضمن إستراتيجية الحلف الروسي الصيني الإيراني من أجل آسيا خالية من النفوذ والوجود العسكري الأميركي خلال عشر سنوات، لذلك فإن الصراع هنا ليس مع تركيا بقدر ما هو على تركيا التي يراهن حلف منظمة شنغهاي الأوراسي على فرص اجتذابها وإخراجها من الناتو.


ولعل صمود الدولة والجيش السوريين خلال السنوات التسع الماضية كان نقطة القوة الأهم في يد الحلف الأوراسي من أجل ترويض تركيا وإقناعها بعدم جدوى الوهم الذي أغوته بها واشنطن والمتمثل بحلم الهيمنة على المنطقة تحت عنوان استعادة الخلافة العثمانية.


ضمن السياق السابق جاء حديث الإستراتيجي الأهم في روسيا حالياً والأقرب إلى الرئيس بوتين، الفيلسوف ألكسندر دوغين في مقابلة معه في عدد 27 شباط 2020 من جريدة الأخبار اللبنانية تعليقاً على الاشتباك العسكري في إدلب، كما تضمن حديث الرئيس بشار الأسد عن العلاقة مع تركيا الدولة والشعب، المعنى ذاته ضمن المقابلة التي أجراها مع قناة «روسيا 24» وبثت في 5 آذار 2020، لذلك يمكن القول إن هناك تقاسم أدوار بين الحليفين روسيا وسورية، حيث تقوم الدولة السورية بالاشتباك عسكرياً مع جيش تركيا الذي يحتل أرضها، فيما تمد له روسيا اليد للخروج بصيغة حفظ ماء الوجه، والهدف النهائي من هذا التنسيق إبعاد تركيا عن تأدية دور الخادم للمصالح الأميركية في منطقتنا، فبعيداً عن جنون أردوغان وأحلامه الإمبراطورية، ليس لتركيا الدولة مصلحة حقيقية في حماية الإرهابيين الذين شوهوا صورة الإسلام واستهدفوا أمن العرب والمسلمين خدمة للأمن الإسرائيلي، خصوصاً لو كان ثمن ذلك الزج بجيشها في معركة خاسرة في سورية، فلو أن العائد من دعم التكفيريين سيكون عودة هيمنة تركيا على العالم العربي لوقف كل الأتراك مع أردوغان، لكن صمود سورية خلال السنوات الماضية أثبت أن ذلك من المستحيلات، ولا شك أن في الدولة والجيش التركيين من أدرك أن المصلحة الإستراتيجية التركية هي ذات المصلحة السورية والروسية والإيرانية وتتمثل بإسقاط المشاريع الأميركية التي تستهدف أمن الإقليم بأكمله، وهو ما أشار إليه ألكسندر دوغين في مقابلته مع صحيفة الأخبار، عندما تحدث عمن سماهم الأوراسيين داخل الدولة والجيش التركي، والذين يرون مستقبل تركيا بالانفصال عن السياسات الغربية في منطقتنا.


على المقلب الآخر وبعد هزيمتهم العسكرية والأخلاقية يعزي جماعة ما سمي بالثورة السورية أنفسهم بالقول إن حال الدولة السورية «النظام» ليس أفضل من حالهم، ومما يتم ترداده اليوم بكثافة القول «إن الأتراك والروس يتفاوضون على مستقبل سورية»، يتجاهل هؤلاء أن الاتفاق الروسي التركي لم يكن حول مستقبل سورية الذي صار معروفاً، بل كان حول إجراءات ومراحل تصفية ما تبقى من ثورتهم الإرهابية التكفيرية، وأن اتفاق موسكو الأخير لم يتطرق لا من قريب ولا من بعيد للدستور السوري أو لتقاسم السلطة مع الرئيس بشار الأسد كما كان الأتراك وأسيادهم الأميركيون يحلمون منذ بدؤوا بدعم الإرهاب على الأرض السورية، وإذا كان هناك دروس أثبتتها حرب السنوات التسع الماضية، فأهمها أن الدولة والجيش السوريين هما الورقة الرابحة التي ترجح حظوظ حلف شنغهاي الروسي الصيني الإيراني، في مواجهة حلف الناتو في منطقة غرب آسيا، فلولا صمود سورية لحوصرت إيران وعزلت في المنطقة، ولبقيت روسيا مجرد دولة إقليمية قوية ولما عادت دولة عظمى وقطباً عالمياً، ولفقدت الصين أي فرصة في الوصول للمتوسط عبر مشروع طريق الحرير الجديد الذي تضع الولايات المتحدة كل ثقلها اليوم لإفشاله، بل إن الصمود السوري هو العامل الأهم في زيادة فرص ترويض وإعادة تشكيل السياسة الخارجية لتركيا وإخراجها من الناتو، لذلك كله يجد حلفاء سورية اليوم أنفسهم معنيين ببذل كل ما يمكنهم من أجل مساعدتها على استعادة قوتها وعافيتها وسيادتها على كامل أرضها.
 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=70197