وجهات نظر

السوريون يشهرون قراراً بقبول التحدّي

عبدالمنعم علي عيسى


الاعلام تايم - الوطن


تقول الرواية الأميركية إن ثمة ضابطاً سورياً كان قد انشق عن النظام في العام 2014 ومن ثم توجه إلى الولايات المتحدة حاملاً معه 55 ألف صورة لـ11 ألف معتقل في سورية، حيث سيطلق عليه اسم رمزي هو «قيصر» أو «سيزر»، ومن ثم سيتم عرض شهادته على مجلس النواب الأميركي للمرة الأولى في تشرين الثاني من العام 2016، وبعدها سيعمد المجلس إلى تمرير قانون يحمل الاسم نفسه لثلاث مرات كان أولها في ذلك العام، ثم في عام 2017 وأخيراً في مطلع الشهر الجاري من هذا العام.


الرواية تحمل الكثير من إشارات الاستفهام والعديد أيضاً من التساؤلات، فإذا ما كان الضابط في أميركا وتحت حماية الـ«FBI»، فلماذا يستخدم «التشفير» في ذكر اسمه، وهو سلوك يذكر بطريقة عمل الاستخبارات التي تطلق أسماء رمزية على عملياتها السرية؟ ثم لنتخيل الكم الهائل من الصور الملتقطة، بحسب الرواية، من مواقع عدة وهو أمر يستحيل على عنصر، أياً تكن مرتبته، الحصول عليه لاعتبارات عديدة تتعلق بعمل الأجهزة الأمنية الذي يتسم عادة بخصوصية لا يمكن تجاوزها تحت أي اعتبارات وتحت أي ظروف.


على الرغم من مرور المشروع لثلاث مرات في مجلس النواب إلا أنه تعذر تمريره في المرتين الأوليين داخل مجلس الشيوخ، الممر الحصري، الضامن لوصوله إلى طاولة الرئيس الأميركي ليصار إلى توقيعه فيصبح من بعدها قانوناً نافذاً، إلا أن تمريره الأخير الذي أوصله إلى مجلس الشيوخ في 7 من الشهر الجاري، كان من الواضح وكأن ثمة حالة احتياج فرضتها التطورات وهو ما تظهره حالة ربطه بقانون «تصريح الدفاع الوطني» المرتبط بميزانية وزارة الدفاع الأميركية، وهو قانون متفق عليه عادة بين أعضاء المجلس، أي الجمهوريين والديمقراطيين، ولم يكن هناك من اختلاف عليه على امتداد الخمسين عاماً الماضية، هذا الربط جاء لتلافي ضغط مشاريع القوانين المقدمة لمجلس الشيوخ، الأمر الذي كان يؤدي عادة للنظر فقط بتلك الأكثر خصوصية والتي تتعلق بالمصلحة الأميركية العليا، وكنتيجة لهذا السياق السابق فقد جرى تمرير القانون في مجلس الشيوخ يوم الاثنين 16 من كانون الأول الجاري بأغلبية 89 صوتاً من أصل 100 هو التعداد الكلي لذلك المجلس ما عنى وصوله إلى طاولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أقره في يوم الجمعة الماضي ليصبح فيما بعد هذا التاريخ قانوناً راسماً لتحول جديد في طريقة تعاطي واشنطن مع الأزمة السورية.


على الرغم من مرور المشروع في مجلس النواب لثلاث مرات إلا أنه كانت هناك تلونات للصيغ التي كانت تتقولب تبعاً لاحتياجات تفرضها طبيعة التحولات الجارية في مسار الأزمة السورية، فـ«الضوء» كان يخبو كلما استعرت النار في مسارات هذي الأخيرة، أو هو يستعيد وهجه كلما بدا أن ثمة انفراجاً محتملاً يمكن أن يحدث خصوصاً في الشق السياسي للأزمة، فهو برز مثلاً بقوة في شهر تشرين الثاني من عام 2018 عندما بدأت تتشكل ملامح القمة العربية التي عقدت في تونس آذار الماضي والاحتمال القائم آنذاك هو أن تدعى دمشق لحضورها، ثم جرت آخر تحديثات على ذلك المشروع في حزيران الماضي عندما كسرت كل من الإمارات العربية والبحرين، مع بروز حالة استعداد عند دولة المجر لفعل الشيء نفسه في أيلول الماضي، طوق العزلة المفروض على دمشق منذ أواخر عام 2011.


يهدف «قانون قيصر» إلى أمرين اثنين أولهما توسعة مروحة العقوبات المفروضة على الدولة السورية لتطول جل مؤسساتها بما فيها الوزارات الأهم والبنك المركزي، لتصل إلى حدود فرض عقوبات على دول حليفة لأميركا يمكن لها أن تفكر، أو هي تعيد حساباتها، في الانخراط بأي شكل من الأشكال في عملية إعادة إعمار سورية التي تبدو عملية لا تقل في أهميتها عن أهمية الحرب الدائرة عليها، وكلا الأمرين، الحرب وإعادة الإعمار، سوف يكونان راسمين للوحة تحدد ملامحها صورة المنطقة على امتداد عقود، وثانيهما فرملة التطبيع العربي، وكذا الإقليمي والدولي، مع دمشق، وهو أمر بدت فيه التقارير التي تشير إلى إمكان أن تلحق الرياض بركب أبو ظبي والمنامة في تقاربهما مع دمشق وكأنها تشكل حالة مقلقة تهدد بانفراط عقد الحصار الذي ترى فيه واشنطن وسيلة ضاغطة وحيدة بعد انحسار دور الوجود العسكري الذي اتخذ صبغة غير فاعلة ما بعد عملية «نبع السلام» التركية في تشرين الأول الماضي، وهو، أي الوجود العسكري الأميركي، يبدو فعلاً ذا تأثير مؤقت بل سيصعب عليه اكتساب صفة الديمومة لاعتبارات عديدة لعلل أبرزها تلك التي تتعلق بالسياسات التي ينتهجها ترامب في سورية بشكل خاص وفي الشرق الأوسط عموماً.


من المؤكد أنه سيكون لـ«قانون قيصر» الكثير من التداعيات على الأزمة السورية وعلى الداخل السوري، إلا أنه يرمز بشكل مؤكد إلى حالة انكفاء أميركية، على الرغم من صيغة التشدد التي برز فيها، وهي اقتضت تغييراً في الأدوات المستخدمة منذ بدء الأزمة السورية والتي وصلت في محطات عدة إلى التهديد بالنار بل استخدامها في حالات عديدة، هذا التغير يتجاوز المأمول من تداعياته المحتملة على دمشق لتصل إلى حدود نظيرة لها على موسكو التي تريد واشنطن فرض مراجعة جذرية على سياساتها التي تعتمدها في تعاطيها مع الملف السوري، وهو ما سمعه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في واشنطن خلال زيارته لها خلال الأسبوع الماضي بالتأكيد، ومن المؤكد أيضاً أن تلك الزيارة قد خلقت حالة من التباعد بين الموقفين الأميركي والروسي أكبر مما كان عليه قبل حدوثها تجاه سورية، الأمر الذي يمكن لحظه في العديد من التصريحات التي أطلقها مسؤولو البلدين بعد تلك الزيارة، وكذا في الفيتو الروسي الصيني ضد مشروع القرار الألماني البلجيكي الذي مثل الاختبار الأول ما بعد إقرار «قيصر» ومباحثات لافروف في واشنطن.


في مقلب آخر يمكن التنبؤ وفق العديد من المؤشرات أن القانون لن يحقق الكثير من مراميه، أو أنه بمعنى آخر سيكون ذا دور معنوي ضاغط أكثر مما هو فاعل قياساً إلى الآمال المعلقة عليه، فتقرير البنك الدولي لعام 2019 يقول إن الدين السوري اليوم، وبعد ما يقرب من تسع سنوات على الحرب، لا يتجاوز 4 مليارات دولار، منها 3.5 مليارات دين طويل الأجل يجري سداده بأقساط لا تتجاوز 17 مليون دولار سنوياً، ونصف مليار دولار هو دين قصير الأجل، ثم إن التجربة السورية تمتد لعقود في مواجهة نوع كهذا من الضغوط، على الرغم من إن هذي الأخيرة ستكون هي الأقسى قياساً إلى طول أمد الحرب وضراوتها، إلا أن كل ذرة تراب في سورية تبدو عازمة على النهوض، والقوانين التي تسن لا تقاس أهميتها إلا بمقدار ما تستطيع إحداثه من تحولات أو تأثيرات في الذات الجماعية للشعوب، وفي لحظ ذاك، وقبيل أن يصبح «قيصر» قانوناً نافذاً، كان من السهل على زوار العاصمة دمشق، بالتزامن مع حالة نظيرة لها يرويها زوار حلب، رؤية عشرات اللافتات التي تحمل أسماء لشركات قديمة، وأخرى جديدة استولدها قبول التحدي، كنوع من «التسخين» قبيل الصعود إلى الحلبة لمنازلة «قيصر» الخصم المرشح لتلك المنازلة.


ستبنى سورية برأس المال الدمشقي والحلبي مسنودين بدعم شركات أخرى لدول حليفة، صحيح أن ذلك لن يكون درباً مفروشاً بالورود، إلا أن التحديات غالباً ما تخلق في الذات تصميماً على النجاح، والسوريون أعلنوا على الملأ عن قبول التحدي.
 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=67083