الاعلام تايم - الوطن
كان مؤتمر فالداي الذي عقد في موسكو مؤخراً 19-20 شباط مُخصصاً للوضع في الشرق الأوسط وعلاقة روسيا بمستقبل هذا الشرق والتقاطعات الإقليمية والدولية المترتبة على هذه العلاقة المتصاعدة. وقد حضر هذا المنتدى مفكرون من مراكز أبحاث ودبلوماسيون وسياسيون من أنحاء العالم كافة وكان منتدى حوارياً مغلقاً لوسائل الإعلام هدفه الأساس التوصل إلى خلاصات تقدّم إلى فالداي القادم الموسع الذي سوف يعقد في الخريف القادم بحضور الرئيس بوتين.
وكانت مراكز الأبحاث الأميركية والغربية حاضرة بقوة كي تحاول استمرار تثبيت وجهات نظرها التي طالما تجاهلت الواقع وبنت سياساتها على نظريات افتراضية تفسّر كل التعقيدات القائمة من خلال اعتبار التنوع الديني والعرقي والطائفي في الشرق الأوسط سبباً للتجاذبات، متجاهلة ذلك تماماً وعن قصد لإخفاء أهداف السياسات الاستعمارية القائمة على الطمع بثروات الشعوب وخاصة سياساتها في نهب النفط العربي إضافة إلى العامل الصهيوني الماسك بتلابيب السلطات الغربية التي تدعم احتلال فلسطين واستيطانه من اليهود وتهجير العرب من ديارهم، كل هذه الأسباب هي التي تشعل الحروب في هذه البقعة من العالم.
كما كانت سورية حاضرة بقوّة في فالداي الذي ناقش الحرب الإرهابية على سورية، والوضع الميداني اليوم، والبقع الإرهابية المتبقية، والضغوطات الغربية لمنع وضع حدّ لهذه الحرب الإجرامية والعقوبات الغربية الهادفة إلى منع إعادة الإعمار أملاً منهم أن يتمكنوا من تحقيق أجندتهم التي فشلوا في تحقيقها من خلال استخدام الإرهابيين والقتل والدمار الذي مارسه هؤلاء بتمويل وتسليح وتدريب وتغطية إعلامية وسياسية غربية.
حتى حين حاول بعض المؤَدلَجين على الطريقة الغربية الذين يصعب عليهم التفكير خارج أطرها، حتى حين حاولوا أن يكونوا مقنعين فلم يتمكنوا لأن الحقائق على الأرض تدحض كل التصورات التي نمت وترعرعت في مراكز أبحاثهم ومن خلال نظراتهم الاستعمارية الصهيونية وبعيداً عن كلّ مفرزات وحقائق الواقع ومتطلبات وطموحات الشعوب. وقد كانت مصادفة جميلة أن يلقي الرئيس فلاديمير بوتين كلمته السنوية أمام البرلمان خلال انعقاد هذا الحوار وأن نعيش في موسكو ردود الفعل الداخلية والخارجية على هذه الكلمة التي كان لها دلالاتها أيضاً المرتبطة بموضوع وسير حوارات هذا المؤتمر. فمع أنّ الرئيس بوتين تحدث مدة ساعة و37 دقيقة منها فقط عشرون دقيقة عن الوضع الدولي، فإنّ وكالات الأنباء التقطت إشاراته الدولية وكأنّها كانت الشيء الوحيد الذي ركّز عليه.
ذلك لأنّه وللمرة الأولى يحاول الردّ بشكل واضح وصريح على من يسمونهم دائماً «شركاءنا الغربيين» بصفتهم ليسوا شركاء بل مصدر تهديد للاتحاد الروسي وكلّ ما قاله هو أنّنا لا نحاور من منطلق ضعف بل لدينا القوّة الكافيّة للردّ ليس فقط على الصواريخ التي قد تستهدفنا بل على مرجعية هذه الصواريخ ومكان الأوامر التي أعطيت لإطلاقها، أي بمعنى آخر فقد أوضح للغرب اختلافاً ثقافيّاً جوهرياً بين الغرب والشرق. ففي الوقت الذي تنتهك فيه الولايات المتحدة الأعراف الدولية وتنسحب من طرف واحد من اتفاقيات موقعة مع الاتحاد الروسي وتستخدم لغة القوّة والوعيد، بينما يستمرّ المسؤولون الروس باستخدام عبارة «الشركاء الغربيين» أراد الرئيس بوتين أن يقول للغرب أرجو ألّا تفهموا ذلك على أنّه بسبب ضعفنا بل بسبب عدم رغبتنا في الانسياق إلى ساحة الحرب.
فلا تظنوا أنّنا غير قادرين أو أنّنا لا نمتلك الأسلحة القادرة على مواجهتكم تماماً. وهذا الموقف يماثل تماماً ما يفعله السيد حسن نصر الله حين يُعلِم الأعداء من خلال مقابلاته أنّ حزب الله يمتلك الصواريخ القادرة على الوصول إلى أيّ نقطة في فلسطين المحتلة، وأنّ أيّ حرب قادمة سيتسبب بها العدو سيكتشف أنّ قدراتنا قد اختلفت نوعياً عن المعارك السابقة التي خضناها معه. وقد فوجئ العالم بتصريح الرئيس بوتين لأنّ الغرب غير معتاد على أن يسمع هذه اللغة ولكن هذه هي النقلة الأولى بين العالم الراهن ذي القطب الواحد وعالم المستقبل المتعدد الأقطاب تماماً كما كان حوار فالداي نقلة نوعيّة من هيمنة فكر مراكز الأبحاث الغربيّة على كلّ ما يخصّ الشرق الأوسط إلى تحدّي هذه المفاهيم واقتراح البدائل لها المنسجمة مع الواقع ومع طموحات وطبيعة وآمال شعوب المنطقة.
هل أشر خطاب بوتين إلى أنّ العالم يقترب من المواجهة؟ على العكس من ذلك أعتقد أنّ الرسائل التي أرسلها هذا الخطاب تري أنّ العالم يقترب من التوازن لأنّ هيمنة القطب الواحد قد سبّبت خللاً مريعاً في موازين القوى الدولية وفي الأحداث، ما أدى إلى غطرسة الولايات المتحدة وشنّها حروباً متتالية أدّت إلى مقتل الملايين من العرب وإلى نشر الإرهاب والخراب في بلدانهم ونهب ثرواتهم النفطية. أمّا التصريح عن أنّ روسيا قادرة وأنّ على الآخرين ألّا يستهينوا بها وبما تمتلكه من قوّة الردع والقدرة على الردّ على أيّ عدوان محتمل، فهي أخبار سارة لكلّ الراغبين في السلام والذين لا يريدون أن يروا مزيداً من الحروب تندلع في أيّ بقعة على هذه الأرض. قد يكون إعلان بوتين في 20 شباط 2019 هو اللبنة الأولى في عالم المستقبل المتعدّد الأقطاب، وقد نشهد بعده نشاطاً روسياً متزايداً في أكثر من بقعة من العالم يساهم في صنع السلام وردع مسببات الهيمنة والاستعمار. |
||||||||
|