وجهات نظر

سوتشي..الطريق إلى الشمال

علي قاسم


الاعلام تايم _ صحيفة الثورة


لم يكن تحديد سوتشي لاحتضان الاجتماعات التي اعتادت آستنة على استضافتها، مجرد تغيير في الشكل والمقاربة، بقدر ما يعكس تحضيراً سياسياً لما هو قادم بعدها، باعتبار ذلك يشكل مقدمة طبيعية لتعديلات في المضمون الذي يرسم ما هو أبعد من حدود الدور الذي كان منوطاً بمنصة آستنة من الأساس، حيث كانت تسع جولات كافية من الناحية المنطقية لاعتبارها منصة حققت الغاية التي أنشئت من أجلها، وفي توصيف مباشر فقد استطاعت أن تنجز ما يكفي لتحبير التطورات الميدانية التي قلبت الكثير من المعادلات، وسحبت ما تبقى منها من التداول.‏

 

الأهم في هذا السياق أن سوتشي باتت بحكم التجربة مؤهلة لاحتضان المتغيرات والإضافة عليها سياسياً، وتعميق المسافة الفاصلة نوعياً التي ميزتها عن سواها من منصات، وإن كان ذلك يفرض عليها بالضرورة أن تبقى محكومة -حتى اللحظة- بالوصول إلى مخرجات أكثر انسجاماً مع التعديلات الميدانية والمقاربات السياسية، التي فرضت نفسها قياساً للظروف التي نشأت فيها، وأضحت في مرحلة نضجت فيها الأفكار والمقاربات، وتوضحت الخيارات وانكشفت بعض الأدوار التي كانت تحتاط بالغموض للتعمية على الأوزان السياسية التي تمثلها.‏

 

الثغرة التركية لا تزال تمثل إلى حد بعيد أحد العيوب التي أحاطت بآستنة وجولاتها المختلفة، وكانت نقطة الضعف التي عانت منها لجهة الضمانات التركية، التي بدت حمالة أوجه وعرضة لمساومات لا تزال تشكل خياراً للنظام التركي حتى اللحظة، واستمراره في سوتشي يخضع في نهاية المطاف لحسابات ومعادلات العلاقة مع أميركا، حيث يقدّم عروضه تبعاً لمنهج الفرصة المتاحة، ولن يتردد في الغوص بعيداً عن المسارات المطروحة حين تؤشر أميركا، أو عندما تقدم على فتح باب قبوله طرفاً في المساومات الأميركية، خصوصاً أن كل الدروب تقود إلى الشمال، وجميعها تسلك طريق الحديث عن الشمال !!.‏

 

على هذا النحو تجاوزت سوتشي مرحلة الاختبار، وباتت أمام مفترق طرق سيرسم بكثير من الإتقان ملامح القادم على ضوء ما سبق من تجارب اختبرت المفازات الصعبة التي اعترضتها، وقدمت نموذجاً واضحاً على أن الإرادة السياسية حين تتوافر تستطيع أن تسلك المسار الصحيح رغم وعورة الطريق وضبابية المشهد وغموض الهدف وصعوبة الوصول إلى المخرجات القادرة على إحداث الفرق المطلوب في ظروف شديدة التعقيد وتحديات بالغة الخطورة.‏

 

لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن سوتشي أو غيرها باتت في حلٍ مما ترسمه الغرف الموازية على جبهات متعددة، خصوصاً حين تكون الممرات القائمة تفترض الإرادة التي حضرت في أكثر من مكان، لكنها تبقى عرضة لكثير من المنغصات الناتجة عن الدور التركي وموقف رئيس نظامه، حيث ورقته البيضاء التي أعلنها متخمة بخطوط كالحة السواد، وتعاني فيضاً من الأكاذيب التي تبحث عن مسالك تجنب نظامه الارتدادات والارتجاجات الناتجة عن تراكم سنوات طويلة من العلاقة مع التنظيمات الإرهابية، وآخرها ما أقرت به الخوذ البيضاء الإرهابية من دور الاستخبارات ورأس النظام التركي بإنشائها وتحديد مهامها الوظيفية، ومدعومة في الوقت ذاته بدور أميركي يزداد التباساً وغموضاً بعد رفض المشاركة في سوتشي.‏

 

ما يحسب للدبلوماسية الروسية أنها راكمت من لائحة مقارباتها المتقنة والناجحة، واستطاعت أن تسلك في أكثر المشاهد تعقيداً ميدانياً وسياسياً، لكنها اليوم مضطرة لوضع جملة من النقاط على حروف لا تزال تائهة وتتقاذفها التخمينات، وفي مقدمتها الوجهة القادمة لمن يرفض التسوية، ولمن لا يقبل بالتفاهمات، وهل بمقدور النظام التركي أن يهضم المصير النهائي لأولئك، أم إنه أمام اللحظة التي تسبق الانفجار الإرهابي بوجه صانعه وحاميه وراعيه، وتبقى الإجابات رهناً بمحددات وعناوين ستضطر سوتشي للخوض في تقديم الإجابات عنها، أو على الأقل في تداول المتاح منها، تحضيراً لما بعدها، بما فيها ملامح الطريق إلى الشمال.‏
 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=53770