وجهات نظر

هل فاجأنا ترامب أم فاجأناه؟؟ من سيجرؤ على الحرب؟؟

نارام سرجون


الإعلام تايم - آراء

 

في التجارب العلمية يسمون الأفعال التي لا يتدخل فيها العقل الارادي بالمنعكسات .. ولكن كثيرا ممن يتابعون الأحداث السياسية ينفعلون بسرعة أو يهدؤون بسرعة وكأن عقلهم الارادي لا يقدر أن يساعدهم .. فتكون قدرتهم على فهم الاحداث لا تصنف الا على انها منعكسات .. وتراهم يوما متفائلين ويوماً مكتئبين .. وفي ساعة يصبحون شجعاناً وفي أخرى يصبحون جرذاناً .. وهؤلاء هم من تجدهم ضحايا وسائل الاعلام والدعايات التجارية .. فهناك من التجار من يعيش على ردود أفعال الناس .. حيث تتفنن شركات الدعاية في التلاعب بهم واصطيادهم .. وتتصرف الدعاية السياسية السوداء وفق ذات المنطق حيث تصطاد الجمهور العريض الذي ينفعل بسرعة ولا يحلل الخبر وتكون آراؤه مثل المنعكسات التي لا يتدخل فيها العقل الارادي .. أي باختصار يصبح الحدث السياسي مثل دعاية مشروبات غازية أو منظفات كيماوية أو وجبات برغر وبيتزا .. وهو ما تفعله الفضائيات ووسائل الإعلام الغربية التي تحرك هذه الكتل من الجمهور وفق منعكسات لا إرادية .. وللأسف فان الجمهور العربي كنا نصنفه في أدبياتنا على أنه جمهور عاطفي ورومانسي ينفعل بسرعة ويندمج بسرعة مع الكلمة لأنه ابن ثقافة انفعالية وعاطفية .. فنجحت عملية استغلال المنعكسات أكثر بسبب هذه الميول الانفعالية العاطفية واستدرج الجمهور العريض الى دكان ومحلات الربيع العربي التي باعت الجمهور الحرية والديمقراطية من دكاكين الخليج العربي .. فكيف يقبل العقل الارادي أن يشتري الحرية من محطات ومحنطات الوهابية مثل السعودية وقطر؟؟ .. وكيف يقبل العقل الإرادي أن يذهب بنفسه الى سوبرماركت أمريكي ليشتري منه الاستقلال الوطني بل ويملأ سلته من مذاقات اسلامية صنعتها أمريكا له وهي التي دمرت بلاد المسلمين وثقافتهم وساعدت كل من يسرق لهم مقدساتهم وأهانت نبيهم حتى أن كل لقمة يتناولها من هذا المتجر الأمريكي فيها بعض من لحم أخوانه المسلمين وكل شربة ماء منه فيها شيء من دماء المسلمين والعرب والفيتناميين واليابانيين والأفارقة ..

في هذا السوق المليء بالدكاكين السياسية والبرامج والمحطات الفضائية يتم الترويج لبضائع عجيبة لجمهور المنعكسات اللاارادية الكبير فيتحول حزب الله الى محتل وغاز لسورية وهو الذي كان قبل يومين الحزب الذي قهر الجيش الذي لا يقهر لـ اسرائيل .. ويصبح الرئيس بشار الأسد الذي دوخ أمريكا واذلها في العراق عميلاً للغرب ويقتل شعبه .. وتتحول اسرائيل الى صديق العرب والمسلمين وتتحول روسيا وإيران الى احتلال بل ويهاجر الفلسطينيون من غزة ليقاتلوا في غوطة دمشق وتعزي حماس بمقتل زهران علوش وكأنه كان يقصف اسرائيل بالهاون والصواريخ من خان يونس وليس يقصف دمشق من الغوطة ..

من بداية الحرب على سورية ونحن ربما لا نعاني من الغرب ودعايته الا بسبب أنه يمسك بجمهور المنعكسات الذين لا يفكرون .. وكلما دس خبر وعرض للبيع بعد حملة دعائية ينفعل الجمهور ويصدقون الخبر وبعضهم ينهار من القلق أو الخوف وآخرون ينفجرون من الغضب ....

واذا ما سقطت مدينة بيد الإرهابيين اشتغل العويل والنحيب أو تم صب جام الغضب على الخطط العسكرية وتم تخوين البعض أحياناً .. ولا ينظر هؤلاء الى أن هذه المدن أحياناً لا تقاتل مجانين وهابيين جهلة بل تقاتل أمريكا وكل تكنولوجيا الغرب وأقماره الصناعية التي تحرك هذه الروبوتات وتسيطر عليها .. حتى أن عمليات التشويش المعقدة التي يستعملها بعض الارهابيين لا يمتلكها الا حلف الناتو .. ووصل الأمر بالإرهابيين أن مندوبيهم في المعارضة يطلبون لهم صواريخ التاو وستينغر وهم يستعملونها وكأنها من تصميم الشيخ ابن تيمية وصناعة معامل الشيخ عدنان العرعور الذي قرأ عليها تعويذاته .. ولو كانوا يفكرون بأن من أعطاهم هذا السلاح هو الغرب نفسه الذي لا يعطيهم رصاصة واحدة نحو فلسطين فربما كان لهم العذر ..

في كل خطوة في الحرب كان علينا أن نضبط ايقاع جمهور المنعكسات والدعاية ونعيد تشغيل العقل الارادي وتخميد المنعكسات .. واليوم نجد أن عقل المنعكسات قلق جداً وعصبي ونزق جدا من تسلل المارينز الى شمال سورية .. ومسرحية تحرير الرقة .. ومن ضربة مطار الشعيرات .. والحقيقة أن لهم العذر في ذلك لأن الدعاية الكثيفة لا تترك مجالا للهدوء لأن الأميركيين يتحركون في موكب محاط بحركات كردية محلية وبعملاء آخرين ..

ولكن تعالوا نطرح اسئلة للتخفيف من عشوائية التفكير وتطاير المنعكسات .. فالأجوبة العشوائية لا تطفئ حرائق الانفعال .. وربما كانت الأسئلة الهادئة هي ما يطفئ المنعكسات الـ لا عقلية ..

هل الأمريكيون في عهد ترامب أقوى من الأمريكيين في عهد بوش أو أوباما؟؟ وهل يغامر ترامب بالتورط بالدخول بقوة الى الشمال السوري أو التورط العسكري المباشر وهو الذي يدرك أنه يدخل أرضاً للعدو .. والى حقل ألغام سياسي .. وقد ينفجر فيه في أية لحظة إذا داس على أحد الألغام أو تعثر بشراك مفخخ؟؟ إن الدخول للسيطرة على الشمال السوري يحتاج الى قوة 150 ألف جندي على الأقل .. وحتى الآن لا يتجاوز الرقم 3000 جندي الذي غامر به الأمريكيون .. والطريقة الوحيدة للدخول هي أن يطوق نفسه بميليشيا كردية ويحبس نفسه وجنوده في منطقة خضراء محاطة بالأكراد أو الميليشيا التابعة للمعارضة .. وإن قرر ترامب أنه سيعتمد على قوى معارضة سورية غير كردية في تثبيت وجوده على ضفاف الفرات فإن هؤلاء لا يمكن أن يؤمنوا له ولجنوده حماية من ضربات مقاتلين مناوئين له من كل التيارات خاصة انه من المرجح أن يكرر الأسد وايران نفس درس بوش الذي تم خوض حرب غوريللا مع جيشه حتى أنهك واضطر الى الانسحاب سريعاً ..

ترامب يدرك أنه لا يقدر على المناورة كثيرا وحده في الملف السوري .. تركيا وحدها كانت قادرة اذا ما حظيت بغطاء الناتو ولكن الروس وضعوا خطاً أحمر لأردوغان وشهر الكرد سلاحهم واستنفروا بسبب احتمال دخول الأتراك الى الشمال السوري وهو لقاء يتوق اليه الأكراد ليثأروا من جيش تركيا على أرض صديقة لهم حيث ستقدم الدولة السورية دعمها حتى يتم طرد الكرد والناتو معاً .. ولذلك حتى أردوغان لم يعد قادرا على المناورة كثيراً .. وربما كان هذا سبب الاعلان عن انتهاء عملية درع الفرات ..

ترامب كما قلنا سابقاً يسعى الى عقد صفقة فهو يريد تحرير الرقة باسم الدعم الامريكي ليبيع هذا المنتج الدعائي في أمريكا كي يسيطر على جمهور المنعكسات اللاارادية الأمريكي الذي تحركه قوى المال والإعلام .. وهو يريد أن يبقى في الرقة ليرسم حدوداً لواقع جديد وخرائط جديدة ..

فهل فاجأنا ترامب؟؟

اذا أردنا أن نقول بأن ترامب فاجأنا فإننا يجب أن نقول بأننا لا نستحق أن نتعاطى الشأن السياسي ولا أن نتولى شؤون التفاوض مع أمريكي نعرف لمن خلال تاريخه أنه أبرم أكثر من 600 اتفاقية سلام مع الهنود الحمر نقضها جميعا .. والأمريكيون مجموعة بشرية قامت ثقافتها السياسية على المراوغة والتضليل والخداع في سبيل مصالحها .. كما أن السياسة الأمريكية معروفة في إغداقها الوعود والتنصل منها حالما تتغير الظروف .. واذا قلنا أن ترامب لم يفاجئنا فإننا يجب ألا ننكر أن مفاجأة ترامب لنا كانت في أنه بدا مستعجلاً في إثبات أنه يحتاج الى الحصول على ثناء خصومه في أمريكا حيث ظهر في موقف دفاعي في الداخل الأمريكي وهو يحاول تفادي السياط الناقدة لموقفه من روسيا والأزمة السورية .. وبدا جلياً أنه يحس بالضعف وأنه بحاجة الى اثبات أنه قوي ولكنه يخشى على ادارته من الداخل أكثر من خشيته من أعداء الخارج .. فقام باستقبال البقرة الحلوب وقام بمساندة عجولها في "داعش" بضرب المطار الذي يحارب "داعش" .. وهو بذلك أراد أن يقول بأنه عاد الى الحظيرة التي تمرد عليها ..

كان كل من يراقب ترامب يعتقد أنه سيتمكن من الإفلات من سياط القوى الداخلية المنافسة لأنه ظهر في الانتخابات وكأنه قوي الى حد أنه كان شجاعاً ليقول بأن داعش هي صناعة أولئك الذين في الإدارة الامريكية ذاتها وأن البقرة الحلوب هي صديقة رجال النفط وليست صديقة أمريكا ..

ولكن ما الذي حدث؟؟

البعض أشار الى أن ترامب قرر التخلص من كل الضغوط دفعة واحدة وما قام به هو أحياء لذلك الطلب الذي تقدمت به إدارة أوباما عام 2013 إثر المزاعم بالهجوم الكيماوي في الغوطة وهو القيام بضربة استعراضية على هدف متفق عليه لتظهر إدارة أوباما أنها عالجت الأمر بقوة وحسمته ولكن الروس والسوريين اعترضوا .. ووصل الأمر أن البعض فهم الضربة على أنها تنسيق روسي أمريكي سوري لإنقاذ ترامب من حملة دعائية شرسة تحرض عليه إثر تصريحاته التي تخلت عن عملية تغيير نظام الحكم في سورية وتركته للشعب السوري .. ويذهب هؤلاء الى حد القول بأن هذه الضربة هي آخر المواجهات التي ستطلق يدي ترامب في الحل السياسي بالتنسيق مع روسيا بحيث يبدو أن الحل المشترك لم تفرضه روسيا بل ترامب ..

ولكن هذا الطرح يواجه سؤالاً مهما وهو أن هيبة روسيا ستتعرض للاهتزاز من أجل رفع هيبة أمريكا مما يقلل من هذا الاحتمال بالرغم من أن إخلاء مطار الشعيرات قبل الضربة يؤشر على أن جهة ما أبلغت الروس بالنوايا الأمريكية مما جعل مفاجأتها أقل تأثيراً واحتمال التنسيق ليس قليلاً .. ولكن ما رشح عن نتائج عن العملية الأمريكية هو أن سبب قلة الخسائر ليس الإبلاغ المسبق عن الضربة بل تأثر مستوى دقة الصواريخ الأمريكية الذي كان على عكس أداء هذا النوع من الصواريخ أثناء حربي العراق .. واللافت للنظر أن المواجهة كشفت أن مصير عشرات الصواريخ الأمريكية ليس معروفاً لأنها لم تصل الى هدفها وسقط بعضها في محيط القاعدة .. كما أن الصور الأولى تشير الى أن المطار ليس مدمراً رغم 59 صاروخاً كفيلة بتحويله الى رماد .. وهذا يذكرنا بما قيل عن وجود منظومات تشويش روسية موضوعة في جبل قاسيون منذ تهديد أوباما بضرب سورية .. وهذه المنظومات مهمتها حرف اتجاه ومسار صواريخ كروز أميريكية لمئات الأمتار في حال تعرض المراكز الحساسة في دمشق لضربات صاروخية بصواريخ مجنحة .. وقد تكون هذه المنظومات منشورة في اكثر من مكان في سورية ..

وظهرت آثارها في الساحل السوري عندما انحرف الصاروخان التجريبيان اللذان أطلقا من البحر إبان أزمة كيماوي الغوطة وكان هذا الانحراف الإجباري لمسار الصواريخ أحد أسباب تراجع أوباما عن تنفيذ الضربة ..

أما نتيجة هذه المواجهة فهي قرار روسيا برفع سوية الدفاعات الجوية السورية وهو يعني السماح للجيش السوري بضغط زر الدفاعات الجوية بعد نهاية شهر العسل بين البنتاغون والروس وهو الذي ترك الأجواء السورية مريحة لطيران التحالف .. ويعني أيضاً إيقاف التنسيق الجوي مع الأمريكيين وكل هذا يفسر على أنه اقتراب لإعلان فرض حظر جوي على الطيران الأمريكي .. وغالب الظن أن مراجعة نتائج الضربة ستصب في صالح الدولة السورية لأن الأمريكيين في حال تثبتهم من انحراف مسارات صواريخهم فإنهم سيلتقطون الخلاصة بأن عملية أكبر من هذه العملية لن تكلل بالنجاح بل ستعني أن الجيش السوري لن يتعرض لضربات موجعة بالطريقة التقليدية بل فقط عبر موجات غارات جوية مباشرة بطائرات متطورة .. وهنا ستتلقف إدارة الجنرالات الأمريكيين ما أصدره الروس من بيان عن إيقاف مذكرة التفاهم مع الأمريكيين بشأن تنسيق الطلعات الجوية والذي يعني مباشرة أن اللجوء مستقبلاً الى استعمال طائرات في غارات مباشرة سيعني تعرضها لخطر الاسقاط بعد رفع الغطاء الروسي عن الطيران الأمريكي .. وهي ستكون خطوة تأديبية للبنتاغون .. واذا حدث هذا السيناريو فانه سيعني أن أمريكا ترامب سترد على اسقاط الطائرات بالصواريخ الروسية فتتلقى الرد وبهذا سيتم استدراج برنامج ترامب الى نفس برنامج كلينتون أي الى المستنقع لتخوض الحرب التي يتجنبها الجميع والتي ليست في برنامج ترامب الاقتصادي .. فالتصعيد يعني ارسال قوات برية كبيرة على الأرض وهذا السيناريو مرعب لأنه سيعيد انتاج مغامرة جورج بوش ..

اللافت للنظر هو أن الكونغرس الأمريكي كان قبل أيام قد فوض الرئيس ترامب بتزويد المعارضين بصواريخ مضادة للطائرات والتي قرأها الروس أنها ان نفذت فإنها موجهة نحوهم وهي ستقرأ أيضاً أنها قرارات وضعت قبل الضربة على مطار الشعيرات وهي غالباً ضربة مقررة منذ فترة شهر على الأقل لأن الخبراء الأميركيين سيتوقعون أن الروس الغاضبين من الضربة الصاروخية سيطلقون أيدي الدفاعات الجوية السورية ضد الطائرات الأمريكية كما حدث مع الطائرات الإسرائيلية التي انتهى مصير احداها بالسقوط فوق القدس .. والتي قيل بأن تهديد ليبرمان بالانتقام من الدفاعات الجوية السورية قد نفذه له ترامب الذي ضرب المطار الذي يؤوي صواريخ س 200 التي ضربت تلك الطائرة ..

مما سبق يمكننا أن نخلص الى أن ترامب فاجأنا بضعفه .. ولكنه أيضا فوجئ بضعف الضربات الصاروخية وأنه سيضع الطيران الأميركي في نهاية شهر العسل فوق سورية .. فالروس والسوريون قاب قوسين او أدنى من اعلان فرض حظر طيران فوق الأراضي السورية .. وربما يثبت ترامب نفسه في أمريكا بعد أن استعرض عضلاته .. ولكن مساميره في سورية تخلخلت .. فهل يجرؤ على الحرب؟؟ بل إنه بهذه العملية وضع المعارضة المسلحة والمجموعات الإرهابية في موقف مغاير لما تتمناه .. فالمعركة القادمة ستفاجئ ترامب دون أدنى شك .. وتعيده الى صوابه .. وستفاجئ من استبشر خيرا بضربة ترامب .. وهلل لها وكبّر .. وسيتمنى لو أن ترامب لم يضرب .. ولم يرسل التوماهوك .. ولم يتحرش ببوتين والأسد ..

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=44686