وجهات نظر

زياد الرّحباني في مسرحيّة جديدة "حكمَت المحكمة"

سهى صبّاغ


الإعلام تايم - الميادين

 

طق طق طق.. مطرقة القاضي تضرب وباسم الشّعب، تحكم على رئيس القوّات اللبنانيّة سمير جعجع بثلاثة أحكام إعدام، وذلك في تسعينيّات (1994) القرن الماضي، طبعاً لم تُحسب إلا ثلاث جرائم فقط من بين الجرائم والمجازر التي ارتكبها، خلال الحرب اللبنانيّة، وإلا لاقتضت عودته عدّة مرّات إلى الحياة كي يقضي عقوباته التّالية.

تعود المطرقة لتضرب، وهذه المرّة لتصدر محكمة المطبوعات في بيروت بتاريخ 29 آذار/ مارس وبتهمة القدح والذمّ، قراراً يقضي بتغريم الفنان اللبناني "زياد الرّحباني" مبلغ مليون ليرة لبنانيّة، فضلاً عن تحميله كافّة الرّسوم والمصاريف، وإلزامه بقبول ردّ المدّعي، وبنشر تصحيح أو تكذيب حول ما قاله بأحد البرامج التلفزيونيّة، عن تشبيهه أسلوب سمير جعجع في السياسة، بأسلوب حركة "الإخوان المسلمين"، علماً أن الرّحباني وصف أسلوب المدّعي السياسي، ولم يوجّه إليه أيّة شتيمة.

إذاً، من حوكم بثلاثة إعدامات، يتّهم الفنان الرّحباني، بالقدح والذّم! حين سمعت الخبر، لم أتوقّف عن الضّحك أنا وكل من سمعوه، معتقدين أنه مشهد من مسرحيّة جديدة طالما انتظرناها، للرّحباني النّابغة بالفن، وصاحب الجمهور العريض. تذكّرت الكبار بالسّن حين يقولون "اللّهم أعطنا خير هالضّحكات"..

لكنّها تدور يا صديقي، والاعتذار بعد 300 سنة

أن يكذّب زياد كلامه الموثّق؛ أهو طلب منطقي، أم لا ضير لو امتثل ببعض السياسيين؟ وعلى قول "غاليليه" "لكنّها تدور" (حين طُلِب منه أن يسحب تصريحه عند اكتشافه بأن الأرض تدور، وإلا كانت ستحكم عليه الكنيسة بالإعدام بتهمة الكفر وتضليل الناس. وبعد أكثر من 300 سنة اعتذرت الكنيسة من غاليليه) فهل بعد 300 سنة، تعود المحكمة اللبنانيّة لتعتذر من زياد الرّحباني؟

إنّها تدور فعلاً يا صديقي زياد.. ولا تدور!

"بالنّسبة لبكرا شو.. يا زياد"؟!

يقف الممثّل الذي كنا نسمع مسرحيّته، حتى تحوّلت إلى فيلم سينمائي، فرأيناه ممثّلاً عالميّاً، يحكي وجعه، فيُبكي المواطن على نفسه، ينزع عنه القناع. يبكيه على الوجع نفسه الذي أبكاه منذ سنوات طوال، حين قدّم مسرحيّته تلك على خشبة المسرح.

يتابع الكلام في مسرحيّته "بالنسبة لبكرا شو؟!" التي حفظها كل مواطن عن ظهر قلب؛ بهدوء ما قبل العاصفة. وصف وضع المواطن الذي ضاقت به سُبل العيش. عاش الجوع والفقر، ورضخ لاستغلال وابتزاز ربّ العمل. تخرج زوجته أمام عينه مع آخر، وآخر، كي لا يربّى أولادهما بالفقر المُدقع نفسه، وتأتيه مرهقة وهما يتألّمان.. إنسان منته، على كرسي لا تحمله، ولا الدنيا بأكملها..

بالنّسبة لبكرا شوا.. يا زياد؟!

الوضع نفسه.. بل أسوأ.. هل بكرا هو "اليوم" هل هو هذا "البكرا" الذي كنت وكنّا نخشاه؟

مَن حَكَمَ الشّارع في الحرب، تسلّق سُلّم الدّولة وارتفعت مرتبته، وأصبح رهيف الإحساس تزعجه الكلمة، بعدما أنزل المطرقة وقطع الرؤوس.       

منذ أيّام، قارئ الصّحف، بعدما أصبح يتناول الصّحيفة باشمئزاز وقرف، بسبب أخبار الحروب والإرهاب؛ سُمِعَت قهقهاته التي وصلت إلى سماء لبنان الحبيب، وبحبّك يا لبنان يا وطني بحبّك، من شمالك لجنوبك لسهلك وبقاعك، وامتداداً إلى كل البلاد التي تضمّ جمهور زياد الرّحباني، بعدما قرأ حُكم المحكمة.

لبنان الأخضر الذي غنّاه آل الرّحباني وفيروز، قُطِعَت جباله وأشجاره، ومياهه العذبة تستمرّ بمجراها نحو البحر، فيقضي أهله صيفهم عطشى، وعلى ضوء القمر الذي يبكي عليهم من دون كهرباء، والذي لا يشبه قمر الرّحابنة الذي كان يضوّي عالشّجر وعالنّاس.. أصبحت ليالي المواطن مُعتمة وانطفأ قمرهم..

زياد لا يتوقّف عن المزاح

وكأنّك فعلاً بمسرحيّة للرحباني زياد، الذي أخذ كلمات، ووجع الناس، ونحته فنّاً.. السيّد جعجع يدّعي على حبيب الشّعب، بأنه قال رأيه ولم يشتم و_أيضاً_ لم يقتل. والمدّعي، الذي تعامل مع العدوّ الإسرائيل، وحسبما تؤكّد الوثائق، ما الذي يجعله يعتقد بأن ما أن أعفي عنه، حتّى أصبح بمقدوره أن يدّعي على فنان، عبّر عن هموم الناس ومعاناتهم؟ هناك فيروس في أيامنا الحاضرة، أن يدّعي الزعماء على كل مواطن ينتقدهم بشدّة، على ما أوصلوه إليه من فقر، وذل، وظلم، إلى آخره..

زياد الرّحباني صرخ بإحدى أغانيه يحتجّ "أنا مش كافر بس الجوع كافر.. أنا مقهور ببيتي ومش قادر هاجر.."

لم يُحاكَم من تسبّب بهذا الجوع وهذا القهر، ولم يُحاسب المفسدون في الوطن والأرض. تابع الرّحباني بإحدى أغانيه: "..صرنا بدنا نبيع، إلماس الخواتم، ذهب المناجم، تندفع بالمطاعم، فاتورة الغدا.."

ومن إحدى مسرحيّاته "بالنّسبة لبكرا شو؟!" "مسيو أنطوان بدنا زودة، ما عم بيكفي المعاش الشّهري.." بينما مسيو أنطوان يريد أن يبعث بزوجة هذا الموظّف الصّغير، الذي نزح من قريته النائية، ليشغّلها "بالخليج" ويشتّت العائلة..

" كان غير شكل البلكون" فهدموه يا زياد

نقل زياد الرّحباني من خلال أعماله وأغانيه، طمأنينة الناس التي بدأت تذوب رويداً رويداً.. غنينا معه بحرقة "كان غير شكل البلكون، والصّالون، والصّابون، والزّيتون.. والخسّة الذي قطفها بيده، ارتفع سعرها ولم يعد بمقدوره شراءها.." أصبح كل شيء مغشوشاً، والمباني الأثريّة هدموها، ومحوا معالم البلد وحضارته، وآخرها حديقة وشاطئ بحر، يريدون حرمان المواطن منهما وكتم آخر منفس لهم.. ويتحدّث الزّعماء عن القدح والذّم!؟

"بعدنا طيّبين، قولوا الله"

كان زياد الرّحباني يومياً، ومن خلال برنامجه الإذاعي "بعدنا طيّبين قولوا الله" خلال الحرب اللبنانيّة، يحكي عن مُعاناة الناس، يعيش بينهم ويعاني معهم يوماً بيوم، ولم يسكن القصور، حين كان بإمكانه أن يهاجر، ويجمّع الثروات، ويُقَدّر أفضل تقدير؛ ومَن قصف الناس وهدم البيوت على رؤوس أصحابها، وافتعل المجازر، وتعامل مع عدو بلده، يدّعي عليه ب "قدح وذمّ" أمّا المحكمة فلم تكن في يوم عادلة كاليوم!؟

كرّمته الدولة حين لم تكرّمه

يقول زياد: " نحنا ما بدنا نفهم قدّو.. نحنا بس بدنا نفهم عليه! ونحن أيضاً نريد أن نفهم. هل يلهوا المواطنين بالإدّعاء عليهم، ليموّهوا على ما تسبّبوه من خراب للبلد؟

هل يحاكموا فنان كبير، ومثل أعلى لكثير من المواطنين، كي يجعلوه كبش محرقة، يُخيفوا الناس من خلاله، فيكتموا أفواههم؟ "

زياد الرّحباني، فنان كرّس حياته لفنّه والتزم الفن الجيّد، حتى ضاق به الوطن، فتوارى عن الأنظار والسّمع. كم تمنّى شباب من بلاد عربيّة مختلفة، أن يكون لديهم فنان كزياد، يتمتّع بموهبة كبيرة، ملتزماً بالفن الراقي، لا يتنازل عنه أبداً، ويتكلّم بلسان حالهم. كان دائماً فنّه وجرأته وموهبته، هم سلاحه الوحيد.

حين سُئل يوماً "لماذا لم تكرّمك دولتك؟ قال كرّمتني بأنها لم تكرّمني"

قال سائق التاكسي واختصر

تابع الرّحباني، مع والدته الفنانة الأيقونة فيروز، طريق الفن، فكانت له إنتاجات فنيّة حديثة، أحدثت جدلاً كبيراً، لا يُحدثه إلا الفنان الحقيقي الذي لا يخاف التجديد. هو ثائر بالفن، وذلك ما ظهر بمسرحيّاته السّاخرة، التي تُضحك المواطن حتى البكاء، وشكّل حالة فنيّة خاصّة.

قال لي سائق التاكسي: زياد هو كل شيء، هو أهم من السياسيين. يتكلّم بإسمنا وبلسان حالنا. البلد لا شيء من دونه. يا عمّي بيفهم، كل شي بقولو صحيح..

هذا السائق اختصر زياد، واختصر السياسيين.

من إحدى أغانيه التي تحمل السخرية السوداء، أغنية مربى الدّلال، التي يُكلّم بها عامل تنظيفات، والد فتاة أحبّها، فأظهر بسلاسة كبيرة وهو يضحك، الفوارق الطبقيّة من دون الكثير من التنظير والإنشاء: 

"مربى الدّلال ربّوكي وتعبوا فيكي يا دلال.. رحنا نكلّم أبوكي/ يا ريتك كنتي وشفتي شو قال/ ..ممنونو أنا لبوكي/ ممنونو عالإستقبال/"..

مُوجّهاً كلامه لوالدها: "رح قلّك لدّغري/ أحوالي ما بتغري/ ورّتوني المكنسي وطلعت زبّال/ إذا بيني وبين المحامي/ شغلي ما بدها سؤال/"..

"قلتللو، ساكن خلف العمارة/ لا هي تخشيبي ولا عرزال/ بغسّل ع إيدي/ وبنشر بالحارة/ لا فريزر جايب ولا غسّال"..             

إنه الفن يا صديقي، يدخل القلوب، والعقول، من دون رشوة. الفن الحقيقي وغير الذي يروّجون له الآن، يوعي الناس على حالهم، ويحثّهم على التغيير، لذلك الفنان الجيّد في حاضرنا، هو مغيّب عن جميع وسائل الإعلام، وأصبح يُحاكم إن عبّر عن رأيه. لا نريد أن نظلم أحداً، فربّما أرادوا لفت بعض الإنتباه، أو أن يمازحوننا بالإدّعاء على الفنان زياد الرّحباني، الذي ليس بحاجة إلى محام، فالشّعب بأكمله محام عنه.  

فعلاً "مهضوم"، من إدّعى عليه، حتى لا نقول كلاماً آخر.. 

زياد رحباني إسم يلمع، يجعلك تبتسم برضى، وآخرون أسماؤهم هي أول من يقدح ويذمّ بهم.

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=44636