وجهات نظر

"المعارضة السورية" .. من الجريمة الذكية الى الجريمة الغبية

نارام سرجون


الإعلام تايم

كان أكثر مايقلقني هو تمكن الاسلاميين من مهارات البراغماتية السياسية والدعاية الذكية خارج نطاق مجتمعاتهم السلفية.. وكنت أخشى أن يستمروا بمهارات التخفي والتستر خلف الكواليس كما فعلوا بإتقان في بداية "الربيع العربي".. فبالرغم من أن القاعدة والاخوان المسلمين هم الذين شكلوا الجسم المسلح الدموي والعنيف في الربيع العربي الا أنهم قبلوا برفع شعارات براقة لاعلاقة لهم بها ويتنكرون لها ولايؤمنون بها ولايعملون عليها مثل الحرية والديمقراطية وكرامة الشعب و"الثورة على الاستبداد" .. لأن جل اهتمامهم من السياسة هو الوصول للسلطة وإقامة حكم "رجال الدين" والحكومة الدينية ..

 

 وهو مافعلته الحركة الاسلامية في تركيا التي لعبت اللعبة الديمقراطية وأكلت من أطباق الحرية وغيرت من منطلقاتها النظرية لصالح المنطلقات العملية .. فوصلت الى السلطة التي كانت هي الغاية ثم انقلبت عليها وغرزت مخالبها فيها ولن تترك السلطة الا بحرب أهلية دموية .. وكانت براغماتية الاسلاميين الذين لجؤوا اليها لأول مرة سببا في أن يصاب الناس بالتشويش على نطاق واسع وسببا في تحييد الناس والتردد في خوض المعركة معهم لأن الشعار الذي غطى الحركة الارهابية الاسلامية كان مدنيا وعلمانيا يدغدغ المشاعر ويحرج المعترضين ويجردهم من القدرة على اتهام الاسلاميين انهم يحملون مشروعا اسلاميا سلفيا ..

 

 وأتقن الاسلاميون لأول مرة لعبة كسب الرأي العام عبر إجادة فن الجريمة الذكية وهي أن ترتكب جريمة بقفازات بيضاء تقتل فيها عدوا أو صديقا ولكنك تتهم خصمك بارتكاب الجريمة وتدينه وتذرف لدموع وتمارس البكاء المرّ .. بل وتخوض في دم الضحية تتصنع انقاذها والعمل على إنعاشها وتغوص في الدم حتى ركبتيك وتخرج من بركة الدم وثيابك بيضاء ناصعة ليس عليها قطرة دم .. وهذا مارأيناه عندما كانت كل جريمة ترتكبها المعارضة في سورية يتم نفيها بذكاء ومهارة اعلامية رغم ان القاتل يقتل في ضوء النهار وأمام الملأ وتم في كل مرة اقناع الناس أن الدولة السورية وأجهزتها الأمنية هي التي تقوم بالتفجيرات حتى ضد مبانيها وحتى ضد قادتها وشخصياتها البارزة من أجل نسبها الى "الثوار" وتأليب الناس عليهم ..

 

واستغلت الحركة الإرهابية الاسلامية في تلك الجريمة الذكية السمعة السيئة لأجهزة الأمن في العالم العربي وبأنها أجهزة بلا رحمة .. مستفيدة من إرث طويل من القصص والحكايات الشعبية والمذكرات غير المدققة والشائعات التي تتناول تجارب الناس الذين دخلوا الى غرف التحقيق ولم يخرجوا منها وتعرضوا كما يقولون للأهوال وعمليات التعذيب القذرة.. ولم تجد الحركة الإرهابية الاسلامية العنيفة أي مشقة في إنكار علاقتها بكثير من الجرائم التي ارتكبها إسلاميون .. وليس من المبالغة إن قلنا بأن عملية القاء التهمة أو ردها الى الدولة السورية كان أسهل مهمة على الاسلاميين من نفي التهمة لما كان لدى الناس من استعداد لتصديق عدم نزاهة الدولة في العالم العربي وامكانية تورطها في أعمال خفية ..

أما اليوم فان القاتل يدخل قصر العدل ويتسلل الى مطعم في الربوة ويتم التفجير والقتل دون اكتراث بالرأي العام فيما الحركة الاسلامية تتشفى بالموتى وتهدد الأحياء وقد تركت موقعها في اللعبة الخفية والتقية لتعود الى سلوكها القديم حيث أنها لا تبدي الندم على القتل ولا تتوخى الحذر في ان تجاهر بالجريمة .. والسبب في اعتقادي هو ليس أنها قررت تغيير لعبة الاختفاء والتقية وانها صارت أكثر تحديا وجسارة بل لأنها أمام معضلة الحياة والموت .. فهي تريد بهذه التفجيرات أن تخاطب جمهورها قبل كل شيء بوسائل لا تحتمل الفشل مثل الهجوم على أهداف مدنية رخوة .. وهو الجمهور الذي كان يخشى أنها تموت أو تتحطم فتقول له في عملية انتحارية انني لازلت على قيد الحياة ..

وهذه الرسالة في قصر العدل موجهة الى أنصار الحركة الاسلامية وليس الى السوريين الوطنيين وتقول فيها دون مواربة: ليس "النظام" هو من فعلها كما كنا نقول في كل مرة بل نحن .. لنقول لكم اننا هزمنا في حلب وغيرها ولكن لم نمت ولازلنا قادرين على ايذاء الخصم .. وكلنا يذكر تعليقات المهرج فيصل القاسم التي كانت تصفق للعمليات الانتحارية وتصفها بأنها رد ماحق ساحق على الدولة.. وقد سمعت بآراء معارضة تقول بان عملية القصر العدلي من تدبير الدولة لتأليب الناس على "جبهة النصرة" و"الاسلاميين" بعد نجاحهم في عمليتي حمص الأخيرتين لكن من يتابع صفحات المعارضة يصل الى قناعة أن هذا التفسير لا يلقى ترحيبا ولا ترويجا ولا جهدا مكثفا في النفي باستثناء تهريجات فيصل القاسم التي لا تؤخذ على محمل الجد حتى في صفوف المعارضين ..

بل ان هناك ارتياحا للعملية وخاصة في توقيتها الذي يأتي في توقيت الذكرى السابعة لانطلاق الحرب على سورية (أو ما يصطلح على تسميته بالثورة السورية) لتقول ان "الثورة" لن تموت .. بالرغم من أن الجريمة تهزنا الا أن علينا أن نقرأ ما أحاط بها من أجواء في المعارضة ونفسر بدقة سبب تمنع المعارضة والتنظيمات الارهابية عن القاء التهمة على الدولة السورية (كما جرت العادة) على أنه محاولة لاسترداد ثقة مناصريها به بعد لمس قلق من خسران القاعدة الشعبية للإسلاميين التي بدأت تذوب وتتراجع بسبب خيبات الأمل وانكسارات الوعود وخاصة بعد هزيمة حلب الكبرى ..

ويجب أن نقرأ في هذا القرار تحولا في قدرات وامكانات الحركة الاسلامية الارهابية .. فعندما تعود الثورة عن سياستها في اتباع الجريمة الذكية في انكار الجريمة وتلجأ للجريمة الغبية في قتل أناس بلا تمييز وتفاخر بذلك وتعتبره انجازا من أجل تثبيت مؤيديها فان ذلك يعكس أنها تحس في العمق أنها مأزومة جدا في تماسكها وأن الثقة فيها تتراجع وأنها بحاجة ماسة لحقن جمهورها بالثقة بها وأن عليها اثبات أنها لاتزال تتمتع بالحياة ..

لم يعد هناك من شك أن الحركة الاسلامية الإرهابية على العموم متوترة من تراجعاتها في عدة جبهات وتعاني من علاقة متشنجة مع جمهورها بعد هزيمة حلب التي كسرت شوكتها واذلتها .. ولذلك لم تعد تكترث في لعبة الرأي العام بل باستعادة رأي جمهورها .. ولم يعد يعنيها اجتذاب السوريين وإقناعهم بنظرية أن الدولة السورية تقتل لأنها صارت  تخشى من تأييد الجمهور "للثورة" وتريد تلويث سمعتها .. بل تلجأ اليوم لعمليات عنيفة دون أن تنفي مسؤوليتها عنها بجلاء من أجل الحفاظ على جمهور المشروع الاسلامي ..

 

واليوم تتخلص من الحاجة للشعب ورأيه وتحاول فقط إبقاء حبل الود مع جمهورها السلفي الذي بدأ يفقد الأمل بها وبقدرتها على إحراز نصر .. وقد تكسب الحركة الارهابية عودة تدفق الحرارة في العلاقة بينها وبين جمهورها بسبب هذه العمليات لكن الحقيقة هي أن هذا المكسب تافه جدا لأنه سيفقدها كل ما بنته عبر جرائمها الذكية خلال السنوات الماضية ضمن الجمهور المحايد والرمادي أو الحائر .. ولكن عندما تتلقى الحركة الارهابية ضربة عسكرية قاصمة من عيار هزيمة حلب سيعلم أنصارها وجمهورها أن الحركة تموت وتذوب وان كل هذه الاستعراضات الدموية لن تغير من هذه الحقيقة ..

الجيش السوري والشعب السوري والقيادة السورية قرروا أن يستأصلوا هذه الحركة الارهابية ونتوءاتها في المجتمع .. وهم يتقدمون بسرعة في هذا الاتجاه .. ولن يثنيهم عن هذا الهدف اي انتحاري واي مجنون .. ولا مجرمون أذكياء ولا مجرمون أغبياء .. ولن تغير عزيمتنا جريمة ذكية أو غبية .. بل إن الجريمة الغبية هي أن نترك شيئا من هذه المرحلة دون اجتثاث ..

إن غباء الاسلاميين صار بلا حدود .. فهل بعد سبع سنوات من الجريمة الذكية يمكن أن يعتقدوا للحظة أن الجريمة الغبية قد تفيدهم شيئا أو أنها قد تخيف الناس أو ستغير حياتهم؟؟ .. إن أسلوب الجريمة الغبية هو ما سيعلي من فكرة القصاص كثقافة تحدّ بين الناس .. القصاص أساسه التحدي وهو أساس العدالة .. والعدالة جرحت في قصر العدل .. والتحدي لن يقبل بإهانة العدالة .. والعدالة الجريحة ستبقى تبحث عن العدالة حتى تصل الى لحظة القصاص .. ولن نعود الا بعد إنجاز القصاص من كل القتلة .. الأذكياء منهم .. والأغبياء ..

 

 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=44192