الإعلام تايم-الوطن في أيار من العام 2000 حدثَ اللقاء الشهير بين "بيل كلينتون" والراحل "حافظ الأسد". عندما بدأت معالم إخفاق اللقاء تتضح رغم حالة التفاؤل التي سبقته على المستوى الدولي، أدرك "كلينتون" أن "الأسد" لن يتنازل عن شبرٍ من "بحيرة طبرية"، حاول إظهار مبادرته آنذاك بأنها قد تكون "الفرصة الأخيرة"، ونسي أن "الأسد" خيرُ من يُتقن لعبةَ "الصبر الاستراتيجي".
إذا كنا مقتنعين أن "الأسد" يعرف أن "الوقت لا يزال مبكراً" لأنه يدرك أن الصراع مع الكيان الصهيوني هو "صراعَ وجود لا صراعَ حدود"، وأنه يفضل أن يورث شعبهُ قضيةً عادلة على التفريطِ بالحقوق. لكن لو دقَّقنا فعلياً بمسارِ الأحداث منذ العام 2000 حتى الآن، والدمار الذي ضربَ كلَّ من رفع سيفَ الحق في وجهِ مجرمي العصر، لأدركنا فعلياً أن تعاطي "كلينتون" مع الاجتماع على أنه "الفرصة الأخيرة" لم يكن من باب المواربة.
على سيئاتِه؛ يمكننا القول إن "كلينتون" هو "آخر الرؤساء الأميركيين المحترمين"، يكفي أن الرجل دفع الثمن غالياً منذ بداية عهده أو انطلاقَ ما يمكننا تسميتهُ "السباحة عكس التيار" والسعي الجاد لإيجاد حلولٍ للقضايا العالقة. كان يدرك تماماً أن القادم أسوأ لأنه ببساطةٍ كان يعي أن فضيحة "مونيكا لوينسكي" أشبه بـ"فركة أذن" كبحَت جماحه، هم ليسوا جاهزين فقط لأن يكون لكل من يسبح عكسَ التيار "مونيكاه الخاصة"، لكن الجديد الآن هو علانية أن الولاء للكيان هو "الترموستات" الذي يمنحك طوق النجاة من أوصافٍ إجرامية يتقنها دعاة الحرية في هذا العصر، فالكل عليهِ أن يدورَ في الفلك الصهيوني فقط، فما الجديد؟
طفت على السطح وبشكلٍ مستغرب فضيحة تلقي زوجة المرشح الرئاسي "فرانسوا فيون" أموالاً مقابل مناصب "وهمية". مما لا شك فيه أن اجتماع وسائل الإعلام من دون استثناء للحديثِ عن هذه "الفضيحة" أثرت في حظوظ "فيون" وفق استطلاعات الرأي، بل أثرت بشكلٍ كبير في البيت الداخلي للحزب اليميني الذي طالب بعض أعضائه باستبدال "فيون" بمرشحٍ آخر. لكن وفي الوقت ذاته تركَ تعويمَ الحديث عن هذه الفضيحة السؤال مطروحاً في الشارع الفرنسي:
بقراءةٍ موضوعيةٍ يبدو أن الفضيحة ليست أكثر من "دفعةٍ على الحساب" تلقاها "فيون" من أولئك الذين أزعجهم صعودهُ الصاروخي أولاً، وخطابه الذي فيما يبدو لهم قد تجاوزَ خطوطَهم الحمراء. قلنا سابقاً إن الرجل ومنذ خروجه من رئاسة الوزراء لم يكن أحداً ليرشحه، لكن السر بصعوده هو خطابه المتوازن في ظل هذه الفوضى المتطرفة من كل الاتجاهات التي تضرب العالم. لكن ما هو متوازن للشارع الفرنسي لا يبدو كذلك لمن يثبت لنا يومياً أن الديمقراطية ليست أكثر من كذبةٍ كبيرة يصدقها الحمقى، ليحكمهم اللصوص. "فيون" فتح بخطابهِ وكرَ الثعابين من جبهتين؛ الأولى هي "إسرائيل" عندما تحدث عن دعم "حزب الله" ما دام يحارب المتطرفين، والثانية عندما طرح أن الحل لمشكلة التطرف تكمن بتجفيف المستنقعات، وهل هناك من مستنقعٍ "أوسخَ" من تلك "الوهابية القميئة" التي تمثل "آل سعود" فدعا لمراجعةِ العلاقة معهم؟
ختاماً، عندما تتحدث "إدارة ترامب" صراحةً عن مبلغ مالي يفوق 100 مليون دولار على مشيخات النفط دفعها لضمان بقاء القوات الأميركية لحمايتهم في الخليج من الخطر الإيراني، عندها سنقول إن "إسرائيل" قادرةٌ على أن تفعل أكثر من ذلك، الحساب والعقاب بات علناً في درجةِ الولاء لـ"إسرائيل". إن ما نقوله ليس بجديدٍ، حتى "ترامب" ذات نفسه وفي طريقةِ تعاطيهِ مع تلك المشيخات كل ما فعله أنه أخرج الأمور للعلن، فهم كانوا يدفعون في السر أو تحت مسمياتٍ مختلفة أهمها "شراء أسلحة"، اليوم هم سيدفعون كما يحلو للبعض تسميتها "الجزية" صاغرين، وعندما تخرج عن "بيت الطاعة" ستدفع الثمن، فهل إن ارتفاع حدةَ حديث "ترامب" وتهديداته تجاه إيران هي نوع من الضغط غير المباشر على "آل سعود" ليدفعوا أكثر، أم هي فعلياً إستراتيجيته في مواجهة إيران مقابل التنازل في أماكن ثانية؟
من جهةٍ ثانية هناك من يرى أن إيران هي من بدأت بالاستفزاز، فهي أولاً من وضع شرط عدم وجود أميركا في "الأستانا"، وعوض التهدئة أتبعت ذلك بالتجربة الصاروخية ثانياً؛ هذا الكلام من حيث مسار الأحداث يبدو صحيحاً لكن من قال إن استراتيجية "ترامب" بُنيت بعد هذا التصعيد، الرجل يكرر تهديداته منذ إعلان ترشيحه، أما عن التجربة الصاروخية فهي جاءت بعد قرار "ترامب" وتهديداته، وبمعنى آخر:
في الإطار العام فإن كل تهديدات "ترامب" نسخٌ مكررة لا أكثر. "جون كيري" حتى ما قبل توقيع الاتفاقات النووي بساعاتٍ كان يهدد إيران بالخيار العسكري، لكن في الوقت ذاته إياكم والتعاطي مع "ترامب" كشخصٍ ساذج لا يدري ما يفعل؛ إن ما يفعله "ترامب" فيما يبدو أذكى بكثيرٍ من رؤيةِ البعض له، هو سيقوم فعلياً بنقل السفارة لـ"القدس المحتلة"، وسيزيد من حجم الضغط على إيران بل ربما يبدل نوعاً ما خطابهُ تجاه سورية، لكن كل هذا لن ينفع، لقد ولّى الزمن الذي تكون فيه الولايات المتحدة قادرةً فقط على أن تضغط في الخارج بوجود الداخل المتفهم، لأنه حتى على المستوى الداخلي سيكون في وضعٍ لا يحسد عليه. لا تنظروا لما يقوم به "ترامب" فقط، انظروا الآن وتمتعوا بارتفاع حظوظ زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا "مارين لوبين" بعد فضيحة "فيون" أولاً، وبعد نجاح قرارات "ترامب" الأولية بكسب الجمهور المتطرف ثانياً، هذا ليس كلاماً في الهواء، هو كلام في رحم السياسة والمسار التاريخي وبمعنى آخر:
لا تصدقوا من يقول إنه قادر على أن يدمر أميركا، كذلك الأمر واهمٌ من يقول إن الاقتصاد الأميركي سينهار، أميركا لا تسقط بالصراخ، أميركا تسقط فقط من داخل أميركا، دعوا "ترامب" يؤدي رسالته واتركوا متطرفي أوروبا ينهون الاتحاد الأوروبي بأيديهم. إن من بشَّر يوماً بـ"صراع الحضارات" فسيقف مؤيدوه مذهولين من حجم ما اقترفت "أفكاره"، هم ظنوا أن هذا الصراع بحاجةٍ فقط لمتدينٍ متطرف، وقومي يفوقه تطرفاً لتتصادم الحضارتان، لكنهم أسفاً لم يشرحوا لنا: ماذا عن الصراع الداخلي في "الحضارة الواحدة"؟ لعل وصول "ترامب" سيجيبكم. |
||||||||
|