الإعلام تايم-السفير من شرفةٍ صغيرة في مبنى دُمّر طرفُه في حي بستان القصر، يُطلُّ رجلٌ ستيني برأسه، تقف إلى جواره سيدة في مثل سنه تقريباً، يُلقي تحية سريعة ويطلبُ منا أن ننتظر نزوله. بيدٍ مهتزّة، وعلى عجل، يصافحُنا الرجل ذو البنية الجسدية الهزيلة قائلاً "لم أخرج من بيتي أبداً، أبنائي خرجوا جميعهم هرباً من المسلحين، إلا أنني وزوجتي خشينا على منزلنا فبقينا". يدورُ حوارٌ سريع بين الرجل وضابطٍ في الجيش كان يجول وعناصره على الحي بعد ساعات فقط من خروج المسلحين، حيث تسللنا بصحبة مجموعة صغيرة من الصحافيين إلى الحي لتفقده.
يسأل الرجل متمتماً ببضع كلمات "سمعنا أنه يتم توزيع مساعدات غذائية". يشير الضابط المرافق إلى مدرسة اليرموك القريبة التي كان يتخذها مسلحو "جيش الإسلام" المدعوم من السعودية مقراً له، حيث تم ضبط مخزن كبير للمواد الغذائية، وتمّ فتحه لجميع المواطنين الجائعين. يهرع الرجل بسرعة إلى المدرسة للحصول على ما يمكن أن يسد رمقه ورمق زوجته المريضة. أبو خالد، أحد سكان حي الكلاسة المجاور لحي بستان القصر، يروي لـ"السفير" بعض تفاصيل الحياة التي كان يعيشها: "كان التدخين ممنوعاً، رغم ذلك كان المسلحون يبيعوننا السيجارة الواحدة بخمسة آلاف ليرة سورية (نحو 10 دولارات)، علماً أن ثمن علبة السجائر كاملةً لا يتجاوز الـ200 ليرة سورية (أقل من نصف دولار). ويضيف "كل قيادي من قادة الفصائل اتخذ من أحد المنازل مقراً له، وضع أمام المقرّ مولّدة كبيرة، وقام ببيع الكهرباء"، ويتابع "كانت كل سبل الحياة بيدهم، كانوا يمسكون بكل شيء، وأي شخص يغادر منزله كانوا يتّهمونه بأنه عميل ويقومون بسرقة منزله". خلال السنوات الأربع التي سيطرت فيها الفصائل المسلحة على حلب، تنوّعت الأيديولوجيات والرايات. بداية سيطر مسلحو "لواء التوحيد" التابع لجماعة "الإخوان المسلمين" على معظم الأحياء الشرقية، بالتعاون مع فصائل صغيرة. فور سيطرة الفصائل على الأحياء، بدأوا بتغيير نمط الحياة وشكلها، فنفذوا عشرات عمليات القتل في الشوارع، وقاموا بالتمثيل ببعض الجثث ليفرضوا أنفسهم بالقوة. يقول لؤي، وهو شاب في الثلاثين من عمره أقام لمدة عامين في ظل سيطرة المسلحين قبل أن ينتقل إلى الأحياء التي تسيطر عليها الحكومة، "اختاروا في جرائمهم الشخصيات المعروفة في المجتمع، المخاتير وبعض الأشخاص من ذوي الشأن، قاموا بقتلهم والتمثيل بجثث بعضهم، جمعوا الناس لمشاهدة عمليات القتل، تمكّنوا بعدها من فرض سطوتهم على المجتمع". بعد فترة من سيطرة "لواء التوحيد"، بدأ عود فصائل أخرى يشتدّ. حركة "أحرار الشام"، "جبهة النصرة" وتنظيم "داعش"، بدأت بالظهور والتنامي بشكل كبير، وكان مسلّحوها أكثر دموية، وأكثر تشدداً. نفذت "أحرار الشام" أول عملية جلد لرجل في ساحة عامة في حلب بتهمة "التخلف عن صلاة الجمعة". ونتيجة لتنافس الفصائل المسلحة، تم إنشاء "محكمة شرعية" لتوحيد العمل "الجهادي". بعد فترة، بدأ تنظيم "داعش" يخرج عن سرب الفصائل "الجهادية"، وامتدت أيدي مسلحيه إلى بعض "مصالح" الفصائل الأخرى، قبل أن يتمكن مسلحو التنظيم من السيطرة على جزء مهم من أحياء حلب الشرقية، ضمّ مساكن هنانو والصاخور وأحياء محيطة. في مناطق سيطرته، فرض التنظيم الإرهابي رؤيته للحياة، وأمسك بزمام مقوماتها كافة، من أفران الخبز والصيدليات والمستشفيات، وأقام سجوناً ومحاكم خاصة، وفرض لباساً معيناً على النساء، كما شدّد رقابته على زيّ الرجال أيضاً.
مطلع عام 2014، تمكّنت الفصائل من طرد "داعش" من مدينة حلب. كان التنظيم قد ارتكب حينها مجزرةً في مشفى العيون في حي قاضي عسكر الذي كان يتّخذه مقراً له. تغيّرت الرايات، وتمدّدت "جبهة النصرة" على حساب الفصائل الأخرى.
"محاكم شرعيّة" وسجون
أبناء الحرب
إضافة إلى ذلك، تروي مريانا أن عدداً كبيراً من الأطفال قدموا دون عائلاتهم، وأن عدداً كبيراً من العائلات كان يضم أطفالاً كثراً، سواء من أبنائهم أو من أبناء الجيران، وتتابع أنه "بالنسبة للنساء والفتيات، فإن نسبة عدم التعلّم كانت كبيرة بسبب الخوف من خروج الفتيات للشارع وعمليات الخطف والزواج القسري".
في هذا السياق، يروي محامٍ في مدينة حلب أن "من بين الحالات الإشكالية التي ستواجهها المحاكم الشرعية في الفترة المقبلة صعوبة تحديد نسب عدد كبير من الأطفال"، موضحاً أن "بعض الزوجات احتفظن بصور عن عقد زواجهن الذي تمّ في ظل وجود المسلحين، إحدى الحالات تلك التي واجهتها فتاة متزوّجة من رجل يُدعى أبو القعقاع، لا تعرف عنه شيئاً، أنجبت منه طفلاً واختفى". |
||||||||
|