وجهات نظر

فتحرَّكوا يا أُولي الضَّمائرِ والأَلْبَاب

علي عقلة عرسان


الاعلام تايم_الوطن العمانية
إن اتفاقًا على وقف إطلاق نار شامل في سورية، أمر في غاية الأهمية، ومقدمة لا بد منها لتفاوض جاد ومسؤول، بغية الوصول إلى حلول سلمية للمسألة.. لكن هل يمكن أن يتم تنفيذ اتفاق كهذا بين الدول الثلاث المشار إليها، ولا يعطله التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، التي تستطيع أن تفعل ذلك مباشرة ومن خلال حلفائها؟! إن ذلك مستبعَد، ولا بد من شراكة الطرف الثاني في المعادلة "السورية ـ الدولية"..

لن يكون لمدينة "ألما آتا، أي مدينة التّفاح"، عاصمة كازاخستان حتى عام ١٩٩٧، حظّ مدينة "آستانا"، العاصمة الجديدة للبلاد، الواقعة في إقليم "أوبليس أكمولا" المحادد لروسيا الاتحادية، وهي المدينة التي ستحل محل مدينة جنيف، لعقد مفاوضات جديدة بشأن المسألة السورية، كما صرح بذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث من المتوقع أن تجتمع وفود من روسيا، وتركيا، وإيران، لمناقشة موضوع التوصل إلى حلول سياسية في سورية، من دون إهمال ما تم التوصل إليه في جنيف، بهذا الصدد.. وذلك فق عرض تركي ـ روسي، يبحث مع أطراف من المعارضة. وقد يكون حظّ "آستانا"، أو مناخها، أفضل من حظ جنيف ومناخها، فيتم التوصل إلى اتفاق، مرحلته الأولى: "وقف إطلاق نار شامل، في جميع المناطق السورية"، ومن ثم متابعة موضوع الحلول السياسية. وهناك مجال للتفاؤل، حيث لا يوجد نزاع استراتيجي، على مستوى دولي، بين الدول الثلاث "روسيا الاتحادية، وتركيا، وإيران"، وحيث إن لكل منها دورًا مهمًّا جدًّا، وحضور مؤثر وكبير، في ما يجري في سورية.
ومن الملاحظ، أن هذه الخطوة لم تشر إلى مشاركة الغرب فيها، على الأقل، في مراحل التحضير والانطلاق نحو وقف شامل لإطلاق النار. وقد لا يكون ذلك استبعادًا تامًّا للغرب "الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا"، ولدول عربية أخرى معنية، من موضوع البحث عن حلول للمسألة السورية، على الرغم من إعلان الوزير لافروف "أن المباحثات مع الولايات المتحدة الأميركية، حول الموضوع المُزمِن، أصبح بلا جدوى"، وقد توقفت الاتصالات بين البلدين حول الموضوع، كما أعلن. لكن لم يتوقف التنافس، أو الصراع، ولن يكون من الممكن تجاوز الشريك الأميركي الذي له وجود وقواعد، ويملك سيطرة ونفوذًا في مناطق من سورية، أهمها في الشرق والشمال الشرقي من البلاد، ويعد العدَّة لدخول الرّقة.
ومن الجدير بالملاحظة، أن هذا التوجه يحدث، بعد التوصل إلى اتفاق على وقف لإطلاق النار في حلب، تبعه إخراج الجرحى، والمسلحين، ومن يشاء من المدنيين، من أحياء في شرق حلب، لتصبح المدينة بكاملها تحت سيطرة الدولة السورية، حيث تم بناء على تعهد تركي بإخراج المسلحين من حلب، قدمه أردوغان لبوتين، كما صرح بوتين بذلك، وتبعه توافق تركي ـ روسي، أفضى إلى اتفاق، أخذ طريقه إلى التنفيذ، ابتداء من فجر الخميس ١٥، وهذا هو النص: (نص بنود الاتفاق القاضي بخروج المسلحين من ما تبقى من الأحياء الشرقية لمدينة حلب. بتاريخ ١٣/١٢/٢٠١٦
رقم(١): خروج المسلحين مع السلاح الفردي فقط.
رقم (٢): خروج المسلحين والمدنيين الذين يرغبون بمغادرة حلب باتجاه غرب حلب.
رقم(٣): إن القوات السورية والروسية تتكفل بضمان سلامة خروجهم حتى عقدة الرقة ويتم نزول المسلحين وعوائلهم ثم تعود الباصات.
رقم (٤): التعهد بوقف إطلاق النار بين الطرفين أثناء خروج المسلحين بضمان الفريق المفاوض ممثلًا بالشيخ عمر رحمون.
الموقعون: الحكومة السورية في حلب ممثلة برئيس اللجنة الأمنية والعسكرية ـ الحكومة الروسية ممثلة بـ العماد فلاديمير سانتشنكو ـ الطرف المفاوض من قبل الدولة الشيخ عمر الرحمون ـ الطرف المفاوض عن المسلحين "المفار د ح ـ كلمة غير واضحة في صورة الاتفاق؟! "مسؤول التفاوض عضو مجلسي قيادة حلب.)
إن اتفاقًا على وقف إطلاق نار شامل في سورية، أمر في غاية الأهمية، ومقدمة لا بد منها لتفاوض جاد ومسؤول، بغية الوصول إلى حلول سلمية للمسألة.. لكن هل يمكن أن يتم تنفيذ اتفاق كهذا بين الدول الثلاث المشار إليها، ولا يعطله التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، التي تستطيع أن تفعل ذلك مباشرة ومن خلال حلفائها؟! إن ذلك مستبعَد، ولا بد من شراكة الطرف الثاني في المعادلة "السورية ـ الدولية"، لأنه لا معدى عن ذلك، من خلال قراءة خريطة الأحداث خلال السنوات التي مضت على بداية الأزمة/الحرب، والتدقيق في الجغرافية الميدانية الحالية في سورية، حيث توجد قوى متقاتلة. ربما كانت روسيا تعلق أهمية على تفاهم أفضل مع ترامب، وتنتظر مباشرته لمهامه الرئاسية في العشرين من يناير القادم ٢٠١٧.. ولكن لا يمكن تعليق الأهمية كليًّا على سياسة أميركية يطلقها ترامب، تتعارض مع استراتيجية أميركية مستقرة، تتعارض مع سياسات روسية مستقرة هي الأخرى، في تعارض فيما بينهما، ولا على مثل ذلك بشأن مواقف ومصالح واستراتيجيات، لحلف شمال الأطلسي.. فأيًّا كان رأي ترامب وتوجهه، فلن يقلب المؤسسات والسياسات الأميركية والغربية رأسًا على عقب، فيصبح بوتينيًّا، حتى لو أراد.. كما أنه لن يلغي تطلعات بوتين الامبراطورية، ويجعله "ترامبيًّا"؟!، فصراع الدولتين العظميين، يفرض نفسه على الرئاستين، وهما قطبا مغناطيس سالب مع سالب، أو موجب مع موجب، ولذا يتنافران أكثر مما يتجاذبان "موجب لسالب".
والمعطيات السياسية والميدانية، بعد انتهاء معركة حلب، تتجه إلى استمرار المعارك في جبهات سورية، وإلى تصعيد كبير محتمل. فالتحالف، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية يعمل على عزل الرقة، وحشد قوات لدحر "داعش” وإخراجها منها.. وقد تكون تلك معركة من أشد المعارك.. وفي الوقت ذاته تعهد الروس ببذل كل جهد ممكن لاستعادة تدمر، ويتم الإعداد والاستعداد لذلك، وتركيا تعلن أنها سوف تتوجه إلى منبج، بعد الباب، إذا ما بقي عنصر واحد من حزب العمال الكردستاني وحلفائه أو أتباعه.. وهناك إغراء كبير جدًّا، لدى من ينتظرون إشعال جبهة إدلب، التي تم تجميع عناصر كثيرة من المعارضات فيها. فنحن أمام احتمالات تصعيد وتفجير، يشير إليها الواقع، أكثر مما نحن أمام توجه شامل لإطلاق النار، تعمل عليه كل الأطراف المتقاتلة، والمتناحرة في سورية. فكيف سيكون مصير لقاءات "آستينا" كازخستان في هذا المناخ؟! أم أن التوافق الدولي كله، سوف يحصل، أو على الأقل يتناغم مع تصريحات حرب التحالفات كلها، المختلفة والمؤتلفة، على داعش، في الرقة وتدمر، مع إرجاء نسبي للمعارك مع حملة السلاح الآخرين كافة؟! إن ذلك يرِد في سياق الاحتمالات والتحليلات والتوقعات، لكنه سيبقى مدعاة للقلق، بسبب التنافر، والتناحر، وانعدام الثقة، وسيول الكراهية الجارفة، حيث لا تناغم من أي نوع، بين تحالفات، وقوى، وأطراف، كل منها يسعى لتحقيق أهدافه بكل الوسائل، وبين الكثير من هذه الأهداف تضاد، أو تناقض فتاك، وقد تتقاطع القوى في هذا المَدى الناري، أو يحدث احتكاك، يليه انفجار كبير.. نعم إنه انفجار لا يريده كثيرون، وقد لا يريده أحد.. لكن أحدًا لا يمكن أن يتحكّم بكل صغيرة وكبيرة في مجريات حرب، بل حروب، وفي مساحة جغرافية محدودة كسورية، تتجمع فيها قوى أكبر بكثير من كل التقديرات، وأكبر من القدرة على الضبط والربط، فضلًا عن التحكم بما يجري.
ويحق لنا، نحن السوريين على الخصوص، بعد كل ما مرَّ بنا، خلال السنوات الست العجاف، بال سنوات النار، أن نرتعد فرَقًا مما هو آت، ولا أقول "أن نقلق على الطريقة البانكيمونية فقط"، بل حتى أن نحس بالاختناق والرعب معًا، حيث إننا نعيش تحت ضغط الكوابيس المتجددة، حتى بعد أن خفت كوابيس حلب، وذلك حين نتصور ما يجري لبلدنا وفيه، وما يجري لشعبنا، وللمدنيين الواقعين بين نيران المتقاتلين من بين أبنائه، وحين نقارب أوضاع أولئك الذين يلاحقهم الإرهاب، ومن يجتاحهم الموت اجتياحًا، من جراء القذائف بأنواعها، والرصاص المنهمر، والقتل بأنواعه، والظلم بأنواعه.
إننا، ومن يشعرون بفداحة الكوارث التي تحل بنا، من أصحاب الضمائر الحية في العالم، لم نخرج أبدًا من دوائر المعاناة بدرجاتها، على أية حال، ونجد أنها حين تخفّ درجتها في موقع، تتفتح جراحُها وتتأزم، في موقع أو مواقع أخرى.. فسورية الحبيبة ساحة معاناة، وساحة حرب، ومساحة ينبت فيها الموت. وحين نرى مخيمات النزوح في ازدياد، وحالات النازحين المغموسة في البؤس الرعب، تتفطر لها القلوب.. ونرى إلى جماعات اللجوء تُقبلُ على احتمالات الموت في البحار والقفار، هربًا من الموت المُحتَّم في أحياء المُدن، أو في البلدات والقرى، وهربًا من أشكال الإرهاب والدمار والحصار والعذاب.. وحين نرى أفواج المهجّرين، فوجًا بعد فوج، وموجًا بعد موج، والهائمين على وجوههم في البراري يسفعهم الشقاء، يهيمون في البرد القارس، وفي حر القيظ، إذ لا توقف لتشردهم في كل الفصول.. هربًا من الدمار والنار وحروب الفجار.. حين نتقرَّا ذلك بعيوننا وأفئدتنا قبل أيدينا، فإننا نعيش كوابيس الوقت الأشد، ونتعرض، مثل غيرنا، لمَا هو أفظع من ذلك، حيث اليقظة من كابوس في حلم تلاشي الرعب، وتفتح العين على آمن ما.. أمّا الرعب المقيم في كوابيس في اليقظة، التي تنموا موجات هلعٍ تكبر.. فإن اليقظة، الوعي، يفاقمها، ويزيدها درجات.
إن كل جهد يرمي إلى حلول سلمية، يستحق أن يبذل من أجل الإنسان والحياة والحضارة. وكل من يقوم ببذل جهد من هذا النوع، وفي مسارات تغلب العقل على الجهل، والسِّلم على الحرب، والحب على الكراهية، وتؤدي لحقن الدِّماء.. يستحق الشكر. وفي قضية مثل قضيتنا، أو مسألتنا السورية المزمنة، المعقدة بامتياز، والخطرة بامتياز، التي أصبحت دولية بامتياز أيضًا، وتنذر بشِدَّة بعد شِدَّة.. من المهم، بل من الضروري، التفاهم والتعاون الدوليين، بإخلاص وثقة ومسؤولية أخلاقية تحكم النزعات والطموحات السياسية، وبحسن نية تؤدي إلى مردود إيجابي.. لا سيما بين الدولتين العُظميين، اللتين تقود كل منهما تحالفًا يقاتل في سورية.. وفيما بين أطراف مجلس الأمن الدولي، المرجعية القانونية، والسياسية، والإنسانية، لا سيما الدول الدائمة العضوية فيه، التي تملك أن تعطله بالفيتو، وتملك أن تجعل له سلطة بقرارات على الفصل السابع من المِيثاق، ميثاق الأمم المتحدة. وذلك بما يضع المسألة السورية وملفاتها، خارج الملفات والقضايا الدولية الأخرى، وخارج المقايضات، وتجاذب السياسات وتناحرها في أماكن أخرى من العالم، وحول مصالح واستراتيجيات وطموحات قد لا تنتهي، ويجب ألا نكون نحن في سوريا ضحاياها، أو أسراها. نعرف جيدًا أن هذا صعب جدًّا، وقد لا يرضي ساسة وسياسات وبلدانا، ذات مصالح وتطلعات، واستراتيجيات.. ولكن سورية الشعب، والوطن، والدولة، والإنسان، والحضارة، والأبجدية الأولى في العالم… لم تعد تحتمل المزيد من التقاتل بها، وفيها، وعليها، ولم يعد من المقبول، بأي شكل من الأشكال، أن تستمر إراقة الدماء فيها، وإلحاق الدمار بما تبقى من عمرانها، ومن بنية مجتمعها، وتماسكها جغرافيًّا وبشريًّا.. ولا يجوز أن تكون حقل تجارب لأنواع من الأسلحة، وأساليب القتال، ولا بلدًا يتقاسمه، أو يتقاسم النفوذ فيه، أصحاب القوة النفوذ. كما أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال، أن يخسر هذا البلد استقلاله بعد كل ما خسره، وأن ويعود إلى عهد استعمار، أو ما يشبه الاستعمار، بعد أن أنهى العالم الاستعمار المباشر، ولم تبق فيه إلا دولة استعمار واحدة، محمية، هي كيان الإرهاب والعدوان، والعنصرية "إسرائيل".
إنه من حق الإنسان في سورية، مهدِ الحضارة، والأبجدية.. سوريا المتحف الآثاري الأكبر في الهواء الطلق.. أن يأمن من جوع وخوف وظلم وفوضى مدمِّرَة وقتل.. ومن حقه أن يعيش في وطن، وأن يطمئن إلى وجود مستمرٍّ مستقلٍّ للوطن. فحتى أصغر الطيور، تعود إلى أعشاش تنام فيها، وتأمن الشر والحرَّ والقرَّ فيها.. فكيف بشعب لا يجد الأمن، ولا الاستقرار، ولا الاطمئان، ولا القوت، في بيت آمن، ووطن آمن؟!
ألا يكفي سورية وشعبها ست سنوات من سيول الدماء، والخراب، والتشرُّد، والشَّقاء..
فتحركوا يا أولي الضمائر والألباب.. وإنا لكم لمنتظرون.
 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=42077