وجهات نظر

إيزنهاورات الثورة السورية .. والفوهرر أبو محمد الجولاني

نارام سرجون


الإعلام تايم

لاأدري عدد الذين ضحكوا كثيراً عندما رأوا صورة الشيخ (أبو محمد الجولاني) وهو يوزع صوره من غرفة عمليات حلب .. وكان -حفظه الله- حريصاً على أن يبدو في الصور بالزي العسكري وكأنه مشغول بالخريطة المعقدة التي أمامه ويركز على الثغرة التي ستنزل فيها الملائكة من السماء .. فيما أركان الحرب حوله يمسكون أجهزة الاتصال ويتشاورن معه بجدية .. ومن يدقق في جدية نظرة الجولاني  يعتقد أنه أمام دوايت أيزنهاور في الحرب العالمية الثانية أو أنه يرى في عينيه مونتغمري الانكليزي أو رومل الألماني ثعلب الصحراء .. الصور في الحقيقة ملفتة للنظر لكثرة الجهد المبذول بعناية كي تبدو مقنعة .. لأنها صور دعائية للسياحة الثورية والسباحة في الوهم كما نعلم جميعاً .. وكأن هؤلاء هم من يخطط لهزيمة الجيش السوري أحد أكبر جيوش الشرق وحلفائه الروس القوة العظمى التي تخشاها القوى العظمى وحزب الله الذي عجزت عنه اسرائيل والغرب كله ..

وجميعنا نعلم أن هؤلاء جميعاً أميون في علوم الخرائط العسكرية .. وأن دورهم اقتصر على التصوير والتمثيل والضحك على اللحى .. لحى المغيبين الذين يتبعونهم ويصدقونهم .. فمن هو هذا الشاب الذي درس الإعلام وانتهى بالشريعة لكنه اليوم يفكك شيفرات الخرائط العسكرية والسمتية وكأنها كتاب من كتب الامام النووي أو القرطبي؟؟ .. فالجولاني قدم نفسه طوال السنوات الخمس الماضية على أنه الرجل المرشد وصانع الايمان والقوة الروحية الملهمة لطلاب الوهم .. أما اليوم فإنه يغامر ويقدم نفسه على أنه مفكر عسكري .. وغداً قد يمسك عصا الماريشالية ويتجول بها كما يفعل عمر البشير وكأن من يراه يعتقد أنه هو الذي هزم موسوليني وعلقه في ملحمة في ميلانو .. وليس بدري أبو كلبشة ..

الجنرالات الحقيقون الذين غابوا في الصورة التي عرضها الجولاني هم الذين يخططون لجبهة النصرة وداعش .. وهؤلاء الجنرالات يتحدثون بكل اللغات الا العربية فلغاتهم تركية وفرنسية وانكليزية وعبرية .. وهم لاشك من كان يضحك على الجولاني وأصحابه ويعرفون أن العربي يحب الوهم والأوهام وأغاني أم كلثوم عن السكارى ..

هذه الصورة المخادعة أضرت بالجولاني لأنها صوّرته على أنه يخرج من إطار الملهم الروحي للثوار الميامين الذي تورط اليوم وخلع ثوب التقى والورع وارتدى بزة عسكرية .. وبدا أنه يتدخل في الجانب العسكري للصراع لأن أداء ضباطه تسبب بالكوارث .. والغلطة الكبرى أن الصورة ستهز مكانته بشدة اذا ما تعرض تنظيمه لهزيمة مجلجلة في حلب كما يتوقع الجميع .. لأن الهزيمة التي ستتلو الصورة ستعني أن الزخم المعنوي الذي أراده من الصورة قد تبخر وتصدع .. وأنه سيتعرض للسخرية من قبل أنصاره قبل أعدائه عندما يهزم ..

هذه الصورة التي أرادها مناصروه لرفع المعنويات بالتمثيل ستكون كارثة حقيقية على تنظيم النصرة لأنها تعكس أولا عمق المأزق الذي وصل اليه من الناحية العسكرية حيث اقتضى أن ينزل الزعيم الأول في التنظيم بنفسه الى غرفة العمليات ليطلع على مجرياتها .. ولو كان الوضع هيناً وسهلاً لما غامر بكرامته الشخصية وزج باللحية والعمامة في مكان ليس لهما .. فوصول القائد العسكري الى غرفة العمليات ونشره للصور تعني أن الوضع خطير جدا وهش للغاية مما اضطر القائد الأعلى للنزول للإشراف على العمل العسكري والمشاركة في التخطيط.

ما نشره الفاتح أبو محمد الجولاني  يعكس عقدة النقص عند العربي .. فالعربي يتنافخ دوماً ويتنطح لمهام لا يقدر عليها مما تسبب لنا بكل الكوارث الثقافية والعسكرية في تاريخنا الحديث .. وتبدو عقدة النقص في هواية التقليد والنسخ الأعمى .. فحكام الخليج رغم أن أنوفهم كبيرة وخياشيمهم مليئة  بالرمل الا أنهم يحدثونك عن روعة التزلج على الثلج في سويسرا وجبال الألب ويحدثونك عن طقس (لندن) وهم يلفظونها بطريقة مضحكة (حيث تكون الدال رقيقة) .. ويلبسون البرنيطات الانكليزية ويحضرون للتصفيق في بطولة ويمبلدون للتنس على أساس أنهم صاروا انكليز أبا عن جد حتى ولو كانت خياشيمهم الكبيرة مليئة  برمل الصحراء كما رؤوسهم .. والأنكى أن لديهم جرائد وفضائيات تناقش ضيوفها من الصباح حتى المساء عن صناديق الاقتراع في العالم ومقادير الحرية في البلدان العربية والغربية .. وهم مجموعة عائلات مالكة فاسدة فساداً عظيماً ..

بعض الزعماء العرب أظهروا ميولا أدبية وروائية كما فعل صدام حسين في رواياته الشهيرة (اخرج منها ياملعون) .. ورواية (زبيبة والملك) وكما فعل القذافي مع رواية (الأرض الأرض والقمر القمر وانتحار رائد الفضاء) ..

ولكن للبزة العسكرية وعصا الماريشالية حكاية أخرى .. فالبزة العسكرية وعصا الماريشالية التي لاتفارق إبط عمر البشير لها جاذبيتها عند العرب .. فالرئيس الراحل صدام حسين كان حريصاً على أن يرتدي الزي العسكري والبيريه على الرغم من أنه ليس عسكرياً ولم يتلق أي تدريب عسكري وليس له تاريخ عسكري .. وكان يلتقط الصور وهو في غرف العمليات يشرف على سير المعارك الحربية .. وهذا ما تسبب في كوارث عسكرية لأنه كان يتدخل في الخطط العسكرية لأنه فقط يرتدي بزة القائد العسكرية .. ولا نزال نذكر الأمير السعودي خالد بن سلطان بن عبد العزيز (المقاتل من الصحراء ) الذي صار يتحدث وكأنه مونتغمري رغم أنه لا يعلم أي شيء عن فنون الحرب الحديثة الا فن ارتداء البزات والأوسمة حتى اضطر الجنرال نورمان شوارزكوف الى اسكاته علناً في مؤتمر صحفي لأنه كان يثرثر فيما لا يعرفه بشكل محرج .. وملك الأردن الذي يعيش في صالات القمار وفي اليخوت ولا يعرف الحرب ولا الضرب يصدر ألبومات وصوراً له بثياب عسكرية ومظلية لأنه يعتقد أن الحرب في الصور ويشمر عن ساعديه كأبطال الإغريق وكأنه أحد كوادر ونستون تشرشل في معركة العلمين ..

وطبعا تذكرون الشقي زهران علوش الذي كان بائع بقالية ولكنه لم يقدر على مقاومة جاذبية العضلات العسكرية فاستعرض حرس الشرف والعرض العسكري الدوماني وكأنه الفوهرر الألماني هتلر أمام الريخشتاغ  في برلين وليس في غوطة دوما .. وكلنا كنا نعلم أنه عرض دعائي وأن كل ما عرضه واستعرضه كان مسرحية مثيرة للشفقة ..

أخشى أن تصل موضة الصور في غرفة العمليات العسكرية الى فيصل القاسم مثلا فنراه بثياب عسكرية ويمسك عصا الماريشالية وكأنه إيزنهاور الدوحة .. وربما يتحمس للفكرة محمد كريشان وخديجة بن قنة .. وتميم بن حمد .. وربما نجد أن الصور القادمة لغرف العمليات تصور الجاسوس عزمي بشارة في ثياب عسكرية وهو يحدق في الخرائط وحوله أخوه الجنرال علي الظفيري يدقق في العمق .. وربما يطالب القرضاوي بغرفة عمليات .. للزواج من القاصرات ..

وأخشى ما أخشاه بالفعل من كابوس أن تصل موضة التقاط الصور في غرف العمليات العسكرية الى لبنان فنجد الفيلد ماريشال سعدو الحريري متأبطا عصا المارشالية الى جانب القومندانتين كارول وماريا معلوف وهو يشير بعصاه في غرفة عمليات بيروت الى "خريتة متار دمشق الدولي اللزي سيسل اليه" (أي خريطة مطار دمشق الدولي الذي سيصل اليه) .. كما يريد ابو محمد الجولاني الذي سيحرر حلب على الخريطة !! ..

ياجولاني .. أنت لست رومل .. ولا مونتغمري .. ولاإيزنهاور .. اعرف قدر نفسك .. أنت لاتزال في مقتبل العمر وربما لم تبلغ الحلم .. والصورة لا تصنع بطلاً ولا ماريشالاً ولا انتصاراً .. ولو كانت الصور تصنع بطلاً لكنا الأمة الأقوى على الأرض ..

العرب لايزالون ينسخون الصور والبطولات والبزات العسكرية ويحملون السيوف ويتنافخون شرفاً .. ولكن السيوف دوماً أكثر عدداً من الفرسان .. فليس ليس كل من حمل سيفاً صار فارساً .. وليس كل من اشترى جواداً صار عنترة .. ومن يعتقد أن القلوب التي ترتعش من الخوف ستصبح ملآى بالشجاعة اذا ما علقت الأوسمة والنياشين على الصدور فان عليه أن يغير هذا اليقين ..

فالأوسمة تتزين بالأبطال أما من يتزين عقله وقلبه بالأوسمة فإنهم الأبطال الذين لايصنعون البطولة .. بل يصنعهم الوهم .. ولكن لابد من الاعتراف من أن الحمقى والبلهاء لايزالون يزينون الحياة ويجعلونها خفيفة الظل وقليلة القسوة .. ولولاهم لكانت الحياة ملآى بالجادين والثقلاء والصارمين الذين لا يعرفون المزاح .. فشكرا للجولاني الذي أضحكنا وذكرنا بأيزنهاورات العرب .. وسنضحك أكثر عندما سيرى العالم هزيمة الفوهرر أبو الفاتح .. بالخرائط ومن دون خرائط ..

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=40828