وجهات نظر

الدور الأوروبي المطلوب

سامر علي ضاحي


الإعلام تايم - الوطن

 

 

قبل انطلاق أحداث "الربيع العربي" كان الاتحاد الأوروبي يسعى إلى تغيير بنية النظام الدولي القائمة على الأحادية القطبية وتفرد الولايات المتحدة الأميركية بصناعة القرارات الدولية، حيث تجلت الغطرسة الأميركية في ولاية الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن التي ترجمت بحربين في أفغانستان والعراق لم يستطع خلالهما الاتحاد الأوروبي الوقوف في وجه واشنطن رغم سعيه إلى لعب دور أكبر في العلاقات الدولية وإحداث أي تغيير في الأحادية القطبية، وإن لم يعلن ذلك صراحة كما هو الأمر مع بكين التي كان تصاعد قوتها الاقتصادية ينذر بتغيير ما في البنية الدولية باتجاه احتمال التحول إلى ثنائية قطبية.

 

أحداث تونس وليبيا كانت فرصة استغلت فيها أوروبا عدم نية الرئيس الأميركي باراك أوباما الإقدام على تدخلات أخرى في العالم تزيد حجم التكاليف على بلاده فرأينا إيطاليا وفرنسا تقودان التدخل العسكري الجوي في ليبيا، لكن بموازاة ذلك لوحظ تراجع واضح في دور الاتحاد الأوروبي منظمة وأعضاء في المعضلات الدولية المتزايدة مع تصاعد متواتر لدور تركيا خلال أزمتي ليبيا ومصر ثم الأزمة السورية وصولاً إلى الانقلاب الفاشل على الرئيس رجب طيب أردوغان، ومن قبله الخطأ الجسيم الذي ارتكبته أنقرة بإسقاط طائرة روسية فوق الأراضي السورية ادعت أنها دخلت مجالها الجوي.

 

في هذه الأثناء كانت روسيا تنتهز الفرصة تلو الأخرى للعودة بقوة إلى قيادة البنية الدولية في محاولة لإحياء قوة الاتحاد السوفييتي السابقة حتى إن البعض تحدث عن ثنائية قطبية يشهدها العالم حالياً حيث تستغل روسيا التراجع الأميركي لتزيد تدخلاتها في العالم وتتوسع وها هي تضع قدميها بقوة في الشرق الأوسط فقاعدة جوية في حميميم باتت دائمة وأخرى بحرية في طرطوس والحديث جار عن إمكانية إقامة قاعدة جوية في مصر، إلا أن حجم التكاليف التي تتكبدها موسكو مع التراجع الواضح في أسعار النفط والغاز، عماد الاقتصاد الروسي، يكبح جماح التوقعات المستقبلية حول إمكانية تحول موسكو إلى قطب ثان يواجه الأحادية الأميركية، لذلك نرى موسكو اليوم تسعى إلى صياغة تعاقدات اقتصادية إستراتيجية مع دول مثل إيران وتركيا بهدف حماية اقتصادها من تهديدات الانهيار في لحظة ما.

 

الصين بدورها تنبهت إلى التراجع الأميركي في ظل إدارة أوباما التي يبدو أنها حذرة أكثر مما يجب بدليل أنها حتى اليوم تماطل في تنفيذ الاتفاق النووي مع إيران، فعمدت بكين إلى إنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي لكونها نجحت بغزو اقتصاديات الدول الإفريقية وباتت تتطلع لدور أكبر في العلاقات الدولية فكان إعلانها عن تعاون عسكري مع دمشق وزيارة مسؤوليها العسكريين إليها ونيتها تدريب الجيش السوري.

 

الملاحظ في غضون كل ذلك أن الاتحاد الأوروبي لم يتراجع دوره الدولي وحسب بل كان تصويت البريطانيين لمصلحة الخروج منه إنذاراً ببداية تفكك الاتحاد في ظل تصاعد اليمين في أوروبا عموماً وفي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهي الدول الأساسية فيه.
ولعل الأزمة السورية شهدت ما يشبه إسقاطات النظام الدولي في رقعة جغرافية لطالما كانت عنصر استقرار الشرق الأوسط، وباتت الأزمة أكثر من دولية شئنا الاعتراف بذلك أم لا، بل أثبت المجتمع الدولي حتى الآن عجزه عن اجتراح أي حل لها، واليوم وصلنا إلى عتبة طرفين دوليين متصارعين قد يعني اتفاقهما في أي لحظة بداية الحل للأزمة.

 

الاتحاد الأوروبي ومنذ انطلاقة الأزمة مال إلى طرف المعارضة وساهمت دوله بداية بخلق ما يسمى مجموعة أصدقاء الشعب السوري ثم كان عضواً في المجموعة الدولية بشأن سورية، حتى ضرب تنظيم داعش الإرهابي باريس وتلا ذلك تمدده في عواصم ومدن أوروبية أخرى فبدأ اتحاد بروكسل يدرك أهمية الالتفات إلى الطرف الحكومي في سورية وكان لقاء مفوضيته السامية للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، فيديريكا موغيريني مع مندوب سورية الدائم لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري على هامش مباحثات جنيف في آذار الماضي تحولاً لافتاً في سياسة الاتحاد لم يواصلها لاحقاً.

 

واليوم أمام الاتحاد فرصة حقيقية لاستعادة المكانة الدولية الفاعلة مع تباعد الهوة بين واشنطن وموسكو بعد انهيار اتفاقهما حول سورية مؤخراً وبإمكانه الإسهام في عملية التسوية سياسياً ودبلوماسياً وحتى عسكرياً إن تطلب الأمر لكنه حتى اليوم ينظر من زاوية واحدة للأزمة وهي زاوية المعارضة وداعميها ويكاد موقف أوروبا واتحادها ودولها يتماهى بشكل لافت مع الموقف الأميركي وهو ما ظهر في الثامن من الشهر الجاري حين شن الأعضاء الأوروبيون الدائمون في مجلس الأمن هجوماً لاذعاً على موسكو ودمشق رغم إدراكهم واعترافاتهم السابقة بالجهود الروسية في مكافحة الإرهاب انطلاقاً من سورية، ووصل بهم الأمر إلى استخدام عبارات لم يعهدها المجلس سابقاً لما احتوته من اللادبلوماسية، وانتقل الخطاب الدبلوماسي الأوروبي مؤخراً إلى اتهام موسكو بارتكاب "جرائم حرب" في سورية متناسين أنها تحارب الإرهاب الذي ضرب عواصمهم ومدنهم.

 

وجاء إلغاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زيارته المقررة إلى باريس كرد فعل روسي على محاولات باريس استعداء موسكو ورسالة نفهم أنها موجهة إلى الإليزيه بضرورة تعديل المواقف تجاه الكرملين الذي سبق أن استخدم سياسة شبيهة مع الباب العالي في تركيا عقب إقدام الأخير على إسقاط الطائرة الروسية فوق الأجواء السورية، وهو ما ولد أزمة بين البلدين أدركت أنقرة بعدها أن لا مناص لحلها من اعتذار رسمي كما طلبت موسكو، وكان إخراج باريس للفعاليات المتعلقة بافتتاح المركز الثقافي الروسي التي أصبحت خارج جدول أعمال الزيارة وكأنها لا ترغب في أي مظاهر حالياً لزيادة التطبيع مع موسكو والأخيرة فهمت الرسالة وردت بأحسن منها، كما أن بريطانيا الخارجة من عباءة الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى حليف دولي مثل موسكو لأن تحالفها مع الأميركان غير مضمون.

 

إذاً الاستعداء الأوروبي لروسيا قد يعوق رغبة الأولى للعودة إلى ساحة المنافسة الدولية ومع تحضيرات بروكسل لاجتماع خاص على مستوى وزراء خارجية الدول الأعضاء لبحث الخيارات حول سورية، تبدو الفرصة متاحة لاستدراك الأمر لكن ذلك يتطلب بوادر حسن نية، قد تصل إلى تقديم اعتذار لموسكو عن التصريحات الأخيرة بحقها، كما يدرك الأوروبيون جيداً، ولو لم يعلنوا ذلك، أن صعودهم الدولي اليوم يتطلب ألا يكتفوا خلال الاجتماع المقرر بمجرد البحث، إذا ما أرادوا للقارة الأوروبية المسماة القارة العجوز العودة إلى ساحة المنافسة الدولية بقوة، وتجديد شباب أوروبا يتطلب أيضاً رفع العقوبات المفروضة على سورية التي يتجاهل الأوروبيون أنها ساهمت بزيادة مأساة السوريين موالاة ومعارضة، إضافة إلى ضرورة إعادة التواصل الفعال مع دمشق لكون "التعاون مع كل الأطراف والمشاركة الفعالة معها" من الأسس المهمة للتعامل مع الأزمات.

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=40173