وجهات نظر

حرب الثلاثين عاماً

نبيه البرجي


الإعلام تايم - الديار


توالت في الآونة الاخيرة التعليقات، من هنري كيسنجر الى ريتشارد هاس ومن ثم أوبير فيدرين، التي تقارن بين ما يجري من صراعات دموية في المنطقة وحرب الثلاثين عاماً في أوروبا خلال القرن السابع عشر..


هذه ليست عودة الى كارل ماركس الذي قال ان التاريخ يتقيأ نفسه، ولكن بصورة مضحكة. كثيرون تحدثوا عن قهقهات التاريخ، ولكن هل يضحك التاريخ حقا؟


المقارنة البانورامية، وحتى التفصيلية، تظهر الفارق البنيوي بين ما جرى في القارة العجوز حيث كان لتفاعلات عصر الأنوار أن تنتج تلك السنوات التراجيدية الطويلة ما دامت هناك لحظة الانتقال إلى زمن آخر، وبين ما يجري في الشرق الأوسط، وحيث الشيخوخة الإيديولوجية والاستراتيجية ما دامت هناك لحظة الانتقال الى فصل آخر، حتماً أكثر سوداوية، من فصول... العدم.

 

بانورامياً، يد واحدة تحاول أن تمسك بالكرة الارضية. لا تسألوا عن يد الله ( الذي كفت الامبراطورية الأميركية يده). جورج بوش الأب أعلن، وغداة زوال الاتحاد السوفياتي، قيام نظام عالمي جديد، وبقطب واحد، دون أن يكترث بقول زبغنيو بريجنسكي ... "بل فوضى عالمية جديدة".

 

باراك أوباما لم يحد عن ذلك المنطق قيد أنملة، وغداً هيلاري كلينتون. روسيا بعيدة جداً عن أن تكون الامبراطورية وأن تكون القطب الآخر، وإن لعبت تكتيكياً من ضفاف البحر الأسود وإلى ضفاف البحر الأبيض (المتوسط).

 

الشرق الأوسط في حالة انهيار. حتى في اسرائيل يقارنون بين دافيد بن غوريون وبنيامين نتنياهو، وفي تركيا بين كمال أتاتورك ورجب طيب اردوغان، وفي ديار العرب (مضارب العرب) بين أبي ذر الغفاري وأبي بكر البغدادي...

 

الثقافة في الشرق الأوسط جثة. ومن تركيا إلى إيران ومصر وما بينها، العقل في غيبوبة الغياب أو في غيبوبة الغيب. محمد أركون كان يتحدث عن تلك الجحافل من رجال الدين ( وقلة قليلة هي التي تدرك، في العمق، المعنى الإلهي والمعنى الانساني) الذين يقفلون كل الطرقات إلى... الزمن.


آنذاك، كانت اوروبا تعرف ليبنيز، وشكسبير، وثرفانتس، وديكارت، ودافنشي،وباخ، وهاندل. ذلك الطوفان من الفلاسفة والأدباء والفنانين الذي دفع في اتجاه طوفان آخر، تمازجت فيه الفلسفة مع الايديولوجيا مع التكنولوجيا. حتى أن ثلاثة أمسكوا بالقرن العشرين هم كارل ماركس، والبرت اينشتاين وسيغمند فرويد.

 

عندنا معاهد البحث دكاكين، الأدمغة دكاكين، الأديان (المذاهب) دكاكين، وإن كنا نقر بأن حرب الثلاثين عاماً بدأت دينية بين الكاثوليك والبروتستانت لتتحول الى جيوسياسية وتنتهي بمعاهدة وستفاليا عام 1648.


شخصياً، زرت مدينة مونستر الألمانية، وتحديداً صالون السلام الذي وقعت فيه الاتفاقية. السلطات تركت هناك بعض الأبنية و الكنائس التي أحرقتها غارات الحرب العالمية الثانية لتبقى عبرة حول ما يمكن أن يحدثه قرع الطبول...

 

أما لماذا افتتن غانتر غراس بكونراد اديناور، فلأنه أقفل كل افواه (كل فواهات) التاريخ. هنا لا قهقهات بل دموع تصنع ذلك النوع الفذ من الحياة...


المقارنة جائزة في نقاط عدة. دول تحاول السيطرة على دول أخرى. استخدام واسع النطاق للمرتزقة، وجثث تتناثر (الموت في اللامعنى وفي اللازمن)، حتى أن عدد سكان المانيا انخفض بأكثر من 30 في المئة، وفي بعض المناطق أبيد نحو ثلثي السكان.

الجيش السويدي وحده دمر 2000 قلعة و18000 قرية، و1500 مدينة في المانيا...


الحرب انتجت فائضاً في النساء، فأفتى الأمراء المنتصرون بتعدد الزوجات وفقاً لما ورد في العهد القديم. وفي مؤتمر عقد عام 1650 في مدينة نورنبرغ الألمانية اتخذ قرار جاء فيه "لا يقبل في الأديرة الرجال دون الستين، وعلى القساوسة ومساعديهم، إن  لم يكونوا قد رسموا كهنة، أن يتزوجوا"، وسمح للرجال بالاقتران من امرأتين...

 

ول ديورانت في "قصة الحضارة" قال "لقد أفاقت التربة التي روتها دماء البشر" لتصنع دولاً عظمى ومجتمعات عظمى. لا أحد يتصور أن التربة عندنا، وبالرغم من كل تلك الدماء، ستستفيق ذات يوم بعدما تحولت الى...مقبرة عظمى. أين المقارنة؟!

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=40065