وجهات نظر

الحركات التكفيرية وقابلية التوظيف: أزمات ذاتية وتراث مُشوّه

محمد شقير


الاعلام تايم - السفير

واحدة من أهمّ ممـــيزات الحركات التّكفيريّة، قابليّتها للتّوظيف، من قبل أكثر من جهة دوليّة أو غير دوليّة، وبطريقة تتنافى مع مصــــالح الأمّة الإسلاميّة، وقضايا العرب والـمسلمين. وسواء علمت تلك الحركات بذلك أم لم تعلم، وسواء تعدّدت وسائط التّوظيف أم لم تحصل، فإنّ الكـــثير من سياسات تلك الحــركات وبرامجها، يسهم في تدمير المجتمعات الإسلاميّة والإضرار بمصالحها، في الوقت الذي تخدم فيه تلك السّياسات والأعمال الإجراميّة والإرهابيّة مصالح قوى دوليّة، ومصالح الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وأهدافه.


وعليه سوف يكون السّؤال مشروعاً، حول الأسباب التي تجعل من تلك الحركات التّكفيريّة ظهراً مناسباً للامتطاء، وأداة سهلة التّوظيف في مشاريع القوى الاستعماريّة ومصالح الكيان الإسرائيلي.


إن أهم الأسباب التي يمكن أن تذكر في هذا المورد هي ما يلي:


1.إنّ تلك الحركات تعتاش على ذلك التّراث، الذي تشكّل نتيجة انخراط جملة من الفقهاء في كنف السّلطة وجهازها المعرفي، ولذلك فهي تحمل جميع تشوّهات ذلك التّراث وعوراته، حيث أن رؤيتها للعالم والواقع من حولها، سوف تكون موغلة في الماضوية، ومنفصمة عن الواقع، ومشبعة بعيون ذلك التّراث ومعاييره.


2.إنّها تعمل على اجترار أزمات التّاريخ واصطفافاته، لتمارس إسقاطاً متعسّفاً على الواقع الذي تعيش، لتحاول تشكيل هذا الواقع على ضوء رؤيتها للماضي وإشكاليّاته؛ محاولة تختزن مجمل سمات الاستنساخ المتصلّب لذلك التّاريخ وقضاياه، من دون أن يكون لديها أدنى قدرة على إيجاد ذلك التّوازن بين الماضي والحاضر.


3.إنها تفتقد إلى القدرة على رؤية الواقع بشكل علمي وموضوعي، والسبب في ذلك، انّه يعوزها المنهج، والأدوات العلميّة والمعرفيّة، والشّروط الموضوعيّة، التي تسعفها على ذاك العمل، بما في ذلك منظومة التّجربة ودورها، والمنهج التّــجريبي الذي يتجاوز بمفهومه وسعته الإطار التّطــبيقي، إلى الإطار الإنساني والاجتــماعي الأوسع. ومن هنا، فهي تفتقر إلى تلك الإمكانيّة لتحديد الأهــداف، والسّياسات، والأولويّات، ومعرفة العدو من الصــّديق، والعمل في ساحات متشابكة وغاية في التّعقيد.


4. تعاني تلك الحركات من ضعف دور العقل والعقلانيّة في رؤيتها للواقع والماضي والتّراث. والسّبب أن بنيتها الفكريّة والثّقافيّة، لا تحتمل ذلك الدّور الفعّال للعقل والعقلانيّة في القراءة والنّقد والتّحليل والمقارنة. وإنّما تعاني اندمالاً مفرطاً في ماضويتها وسلفيتها، واستغراقاً منقطع النّظير في مفاهيم ذلك التّراث المشوّه، ما قلّص إلى حد العدم ذلك الدّور المنتظر للعقل في فهمه للواقع وإدراكه، ونقده للتّراث وغربلته، وتالياً العمل على عقلنة التّراث، بدل أن نقع في ترثنة العقل.


5. بناءً على ما ذكر آنفاً، يمكن القول إن تلك الحركات التّكفيريّة لا تمتلك الاستعداد الفكري والثّقافي لتطور حداثوي فعّال ومستديم، في مختلف مجالات الاجتماع العام، وإدارته وتنميته. ولذلك هي تستطيع السّيطرة (بالمفهوم العسكري) وممارسة سلطة التّغلّب في أكثر من بقعة جغرافيّة، ولكنّها لا تقوى على التّنمية، ولا تستطيع حسن الإدارة، ولا تهتدي إلى تلمّس صحيح وعلمي لمختلف المشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتّنمويّة والبيئيّة.. فضلا عن القدرة على حلها. ولذا هي تصلح لهدم الدّول وليس لتطويرها. وهي توظّف لتدمير المجتمعات وليس لبنائها وتحديثها، او الأخذ بجميع أسباب التّطوّر والحداثة.


6. تورم البعد العنصري والعصبوي في ثقافتها ونظرتها للواقع وفئاته. فهي تحمل في أحشاء تلك الثّقافة مجمل أحقاد الماضي، ومشاعره العنصريّة، تجاه من اختلف ويختلف معها، في الدّين أو المذهب وغيره... وهي ما زالت تستفرغ من بطون ذلك التّراث المشوّه جميع ما اختزنه من أزمات وعصبيّات وكراهية، لتعمل على تمثله والتّماهي معه، بمعزل عن حيثيّات الواقع واعتبارات الحاضر، ولتبني مجــمل مواقفها وسياساتها ورؤيتها، من خلال ذلك المخزون العنصري وأحقاده، ومشاعر الكراهيّة لديه.


7. ضمور البعد القيمي والإنساني في أيديولوجيّة تلك الحركات وثقافتها. والسّبب أنّها تستقي تلك الثّقافة من تراثٍ يعاني ـ بالإضافة إلى تشوّهاته ـ التواءات منهجيّة حادّة في تشكّله وصيرورته، لأنّه جاء في معظم صفحاته وصحائفه تعبيراً عن فقهاء السّلطان وثقافة السّلطة، أكثر منه تعبيراً عن معاني الدّين ومقاصده السّامية. واحدة من تلك الالتواءات تتمثل بتضخّم الجانب القانوني (الشّريعة)، بمعزل عن الجانب القيمي والإنساني في النّصّ الدّيني وحضوره. هذا فضلاً عن الاحتباس في نص فقهي، تشكل في مجمله بناء على مصالح السلطان وميوله، فجاء تعبيراً عن عنف السلطة وتغولها، والأخطر من ذلك أنه جعل من نفسه مرجعية متقدمة على اي مرجعية أخرى، إذ أصبح تراث السلطان في عنفه واستبداده وانحرافاته هو الأساس الذي تؤول من خلاله كل النصوص الأخرى. وعليه، أتت ثقافة هؤلاء ثقافة جافّة قاسية، تعاني ذلك القحط في بعدها القيمي والإنساني، وهو ما انعكس على سياساتها وسلوكيّاتها، التي تجنح دائماً إلى القسوة والإجرام، وتتّصف بانعدام الشّعور الإنساني لديها.


8. تلاشي دور النّصّ الدّيني لمصلحة التّراث السّلفي. بمعنى أنّ الذي أصبح المعيار هو هذا التّراث وليس ذاك النّصّ. حيث غدا دور النّصّ تبرير ذلك التّراث وإعطاءه المشروعيّة بما له وعليه، بدل أن يكون دوره تطهير ذلك التّراث مما أصابه وعلق فيه. وأصبح يُنظر إلى النّصّ بعيون ذلك التّراث، ولم يعد يُنظر إلى التّراث بعيون ذلك النّصّ. ولذلك، عمل على تطويع دلالات النّصّ، لتخدم تشوّهات التّراث، بدل الاستفادة من تلك الدّلالات، لاستئصال ما علق بالتّراث من تشوّهات وأصابه من عوج. ولذلك استخدم النّصّ لإعطاء مشروعيّة دّينيّة لما أفسدته السّلطة، وأحدثه فقهاء السلطان، من إرثٍ أُسقِط على ذلك النّصّ ونُسِب إليه، بدل أن يخالف نص السلطة، ويفضح تراث فقهاء السلاطين وعوراته. إنّ إقصاء النّصّ الدّيني بدلالاته الصّافية، قد أدّى إلى حرمان تلك الحركات التّكفيريّة من القدرة على الاستقالة من ألغام التّراث وتشوّهاته، وأكثر من تلوّث تاريخي ألقي فيه.


إنّ النّتيجة من كلّ ما تقدّم، أن تلك الحركات التّكفيريّة، قد أضحت أداة طيّعة، وسهلة التّوظيف، لأهداف وسياسات استعماريّة، وتوسّعيّة، وإمبراطوريّة، تقوم بها جهات دوليّة وغير دوليّة، ترى في تلك الحركات الأداة الأفضل لتحقيق ما ترتئي، ولو تم التوسل الى ذلك بوسائط إسلاميّة أو عربيّة، ومن خلال استغلال العامل المذهبي، وتعزيز حالة العداء والخوف وانعدام الثّقة بين الطّوائف والمذاهب والجماعات المختلفة، ومن خلال اللعب على التّناقضات والاختلافات القائمة في مجتمعاتنا. ومع كلّ هذا، من خلال التشغيل الهدام لتلك الحركات وسهولته، نتيجة لتلك المثالب التي تعانيها في بنيتها الفكريّة والثّقافيّة والمنهجية، وفهمها المشوه للدّين، وعقلها السّياسي، والدّور الوظيفي الذي تقوم به.

 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=35629