وجهات نظر

الفدرالية السورية تكرار الفشل

جميل مراد


الإعلام تايم - الوطن 

 

يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تحويل الجمهورية السورية إلى اتحاد فيدرالي يضم عدة دويلات مقسمة على أساس طائفي ومذهبي وكثر الجدال بين مؤيد ومعارض لهذه الفكرة ناسجين حولها العديد من الإيجابيات والسلبيات.

 

ربما معظم السوريين لا يعلم بأن سورية مرت بمرحلة فيدرالية في تاريخها المعاصر بعيد دخول القوات الفرنسية المحتلة إلى دمشق.

 

وقبل أن ندخل في تفاصيل هذه المرحلة سنقوم بجولة تاريخية نستعرض فيها بداية تشكل الفكر الوطني السياسي في سورية ستبدأ مع انسحاب القوات التركية التي احتلت سورية لأكثر من أربعة قرون من القمع والاستبداد والجهل والسرقة لمقدرات البلاد الاقتصادية والفكرية والمهنية. أوصلت البلاد إلى أدنى درجات التخلف والجهل.

 

ولكن السوريون الذين يحملون في مورثاتهم جينات التفوق والإبداع الحضاري انتفضوا ليؤسسوا بداية دولتهم الوطنية مع دخول طلائع قوات الأمير فيصل بن الحسين والجيش الانجليزي بقيادة الجنرال اللنبي.

 

تم عقد المؤتمر السوري العام الذي ضم ممثلين من كل أنحاء سورية الطبيعية وتقرر إبقاء هذا المؤتمر بحالة انعقاد دائم فكان بمنزلة البرلمان السوري الأول وجاءت مقرراته بمنزلة استجابة لرغبات السوريين بإعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعية والمطالبة بالأقاليم السورية الشمالية التي أعطيت لتركيا من الإنجليز والفرنسيين، وكان إعلان استقلال المملكة السورية في الثامن من آذار عام 1920

.

و لكن هذه المقررات كانت تتعارض بشكل واضح مع مخططات القوى الاستعمارية التي تقاسمت تركة الدولة العثمانية المنهارة فاندفعت الجيوش الإنجليزية لاحتلال العراق وفلسطين والأردن وتقدم الفرنسيون الذين كانوا قد احتلوا لبنان في وقت سابق باتجاه دمشق فكانت ملحمة ميسلون شاهداً أبدياً على بطولات السوريين وتمسكهم بأرضهم.

 

و ما إن استقر الجنرال غورو في دمشق حتى اصدر قراراً بتقسيم سورية إلى ست دول هي (دولة دمشق – دولة حلب – دولة جبل العلويين – دولة جبل الدروز – دولة لبنان الكبير) ولكل دولة من هذه الدول برلمان وعاصمة وعلم.

 

لم يكن السوريون ليقفوا صامتين أمام هذا التقطيع لأوصال الأمة فانتفضوا عبر تظاهرات وإضرابات بلغت ذروتها في نيسان 1922 حيث قام طلبة دمشق بتظاهرة حاشدة منددين بالتقسيم المفروض فتصدى لها جنود الاحتلال وأسفرت عن استشهاد طالبين وجرح الكثيرين إضافة إلى حملة اعتقالات واسعة شنتها قوات الاحتلال.

 

مع هذا الرفض الشعبي المستمر لم يكن أمام غورو إلا العدول الجزئي عن قرار التقسيم ولكن لمصلحة فكرة لا تقل خبثاً عن التقسيم نفسه حيث أبقى على دولة لبنان الكبير والتي كان قد ضم إليها ولاية بيروت وأقضية البقاع وبعلبك وراشيا وحاصبيا، وأبقى على دولة جبل الدروز وأعطى سنجق الاسكندرون الحكم الذاتي وقام بتوحيد دولة دمشق وحلب والعلويين تحت اسم الاتحاد الفيدرالي السوري وقام بتعيين رئيس لهذا الاتحاد هو صبحي بركات، وهو شخصية مثيرة للجدل معروف بولائه الكامل لفرنسا حيث إنه من مواليد أنطاكيا ويقيم في حلب وهو من العائلات الإقطاعية المعروفة، كما أنه يحمل الجنسيتين السورية والتركية لكونه ينحدر من أصول تركمانية.

 

عرف عنه أنه يتكلم العربية بركاكة مقابل طلاقته في التركية.

 

كان صبحي بركات رفيق نضال للزعيم الوطني الكبير إبراهيم هنانو وشكل مجموعة مسلحة من أبناء منطقته لقتال الفرنسيين وكان يتلقى الدعم والسلاح من تركيا، وبعد توقف الدعم التركي له طلب من أحد وجهاء حلب أن يؤمن له لقاء مع الجنرال غورو فكان هذا اللقاء في بيروت ومنذ ذلك اللقاء أصبح بركات من رجالات المستعمر الأوفياء وأصبح من ألد أعداء الزعيم هنانو وباقي القامات الوطنية المناضلة.

 

قامت فرنسا من أجل تلميع صورته أمام معارضيه بالادعاء بأنه من سلالة القائد العربي خالد بن الوليد وأصبح يوقع كل المراسيم والأوراق الرسمية باسم صبحي بركات الخالدي!

 

بعد زوال الاتحاد الفدرالي عاد بركات إلى تركيا حيث أصبح نائباً في البرلمان التركي وبقي عضواً فيه حتى وفاته.

 

بالعودة إلى الحكومة الفدرالية التي شغل فيها صبحي بركات منصب رئيس الاتحاد ورئيس الوزراء في آن واحد نجد أن الضغط الجماهيري الرافض للتقسيم استمر بالتزايد ليؤكد عدم كفاءة فكرة الفدرالية، فكانت الجماهير والقوى الشعبية تطالب بإعادة توحيد البلاد وإنشاء مجلس نيابي يشكل تمثيلاً حقيقياً لجميع السوريين.

 

نتيجة لهذه الضغوط قام المندوب السامي بحل الاتحاد وإعلان قيام دولة سورية باتحاد دولتي دمشق وحلب وبقيت دولة الدروز والعلويين خارج الاتحاد فاستمرت المطالب والضغوطات الشعبية التي كانت أحد أهم أسباب قيام ثورة عام 1925 واستمرت الأحداث حتى إعلان قيام الجمهورية السورية عام 1930 برئاسة محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية.

 

بالعودة إلى زمننا الراهن وبالمقارنة بين الدول ذات النظام الاتحادي والدول ذات النظام الفدرالي فإننا لا نستطيع أن نجد الفارق بسهولة حيث إن النظامين متشابهان كثيراً من الناحية الإدارية والغاية الأساسية من النظام الفدرالي هي توزيع أكبر للسلطات وهذا موجود أيضاً في الكثير من الدول ذات النظام الاتحادي، كما أن الفدرالية تعتبر أن الدستور هو السلطة العليا التي تستمد منها الدولة سلطاتها وهذا الأمر أيضاً متفق عليه في كل الجمهوريات ذات النظام الاتحادي كما يتفق الاثنان على استقلالية القضاء وحياديته.

 

و من هنا نستنتج أن الهدف الوحيد المطلوب تحقيقه من الفيدرالية هو تعزيز مفهوم المواطنة المزدوجة أي الولاء للولاية وللدولة، ما يشكل تعارضاً مباشراً مع مفهوم الهوية الوطنية الجامعة وبداية للتقسيم الكامل.

 

عندما قسم المستعمر سورية وأعاد تشكيلها بنظام فيدرالي بحجة أن الرغبات الشعبية لأهل المناطق تطالب بالتقسيم الطائفي انطلقت الثورات من أقصى الجنوب بقيادة سلطان باشا الأطرش والساحل بقيادة صالح العلي والشمال بقيادة هنانو، هؤلاء القادة يمثلون الطوائف التي يدعي المستعمر أن التقسيم جاء بناء على رغبتهم ولم تهدأ الثورات حتى عادت سورية موحدة ولكن في خضم التقسيم تم سلخ لواء اسكندرون بشكل سافر عن جسد الوطن الأم سورية.

 

و اليوم وبعد مرور قرن كامل من الزمن على اتفاقية سايكس بيكو ترتفع الأصوات مجدداً لتحاول إنجاح ما فشلوا في تحقيقه منذ مئة عام.

 

سورية ستبقى الدولة المركزية ومن الأجدى لمن يطالب بفيدرالية أن يطالب بعودة الفروع التي انسلخت في الفيدرالية الأولى إلى الأصل السوري. وسيبقى الرهان الحقيقي على وعي السوريين الوطني والقومي الكفيل بالتصدي لكل مؤامرات التقسيم.

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=32986