وجهات نظر

القرار الروسي: رسالة تربك الخصوم

فارس رياض الجيرودي


الإعلام تايم- الوطن

أعلنت روسيا عن سحب قواتها من سورية فصار من كان يتهم روسيا بالأمس باحتلال سورية ومن كان يتهم الدولة السورية بالتخلي عن سيادتها، يروج اليوم لتخلي روسيا عن القيادة السورية، وهو ما لا ينفصل عن سياق سابق في أداء الآلة الإعلامية المعادية لسورية اتسم بالكاريكاتورية والتناقض.

وكي نفهم أبعاد التناقض الذي يقع فيه الإعلام المعادي لسورية اليوم علينا تذكر أن المعركة للفوز بعقول وقلوب السوريين مثلت منذ بدايات الأزمة أهم أهداف المخططين للعدوان، لذلك كانت الحرب النفسية المدارة عبر وسائل الإعلام هي رأس حربة الهجوم، وشكلت العلاقات السورية مع الحليف الروسي أحد أهم الجوانب التي ركزت الأجهزة الإعلامية المعادية عليها جهودها، حيث جرى التشكيك بجدية الموقف الروسي الذي تصدى لمحاولة منح الشرعية الدولية لعدوان عسكري محتمل للناتو على سورية عبر مجلس الأمن، وفي كل مرة كان المندوب الروسي يرفع يده بالفتيو مسقطاً مشروع قرار في مجلس الأمن ينص على تدخل عسكري في سورية، كان يجري تصوير هذا الموقف على أنه مجرد محاولة لاستدراج العروض من قبل روسيا من أجل رفع الثمن الذي ستبيع سورية مقابله، ثم إن الأمر وصل حد التقاط أي تصريح لأي مسؤول روسي بشأن سورية ثم تحريفه عن سياقه أو إعادة تفسيره بغرض توظيفه في البروبوغاندا القائلة إن روسيا تخلت أو هي قيد التخلي عن القيادة السورية، وفي كل مرة كان وزير الخارجية الروسي يضطر للتصريح نافياً أي تغير في الموقف الروسي، حتى تندر البعض قائلاً إن الرئيس الروسي بوتين سيضطر قريباً إلى تعيين موظف متخصص في الخارجية الروسية مهمته الوحيدة نفي حدوث أي تغيير في الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية.

لقد دفعت روسيا خلال ذلك ثمناً باهظاً مقابل موقفها من سورية حيث قامت الأنظمة المتورطة في تنفيذ أجندة العدوان على سورية وعلى رأسها نظام مملكة آل سعود باللعب بأسعار النفط والغاز اللذين تشكل مبيعاتهما القسم الأهم من واردات الميزانية الروسية، وتم إغراق السوق بكميات ضخمة من النفط سببت انهياراً في بورصات الطاقة العالمية، كما تلقت موسكو تهديدات مبطنة باستهداف إرهابي لأولمبياد سوتشي في موسكو ما لم تتراجع عن موقفها من الأزمة السورية، وعرضت على روسيا بالمقابل حزمة إغراءات مالية وعسكرية بدأت بعروض سعودية وإماراتية لعقد صفقات تسلح ضخمة مع روسيا وانتهى الأمر بعرض تقديم قاعدة عسكرية بحرية لروسيا على المتوسط في قبرص أو في دمياط المصرية، مقابل التخلي عن موقفها إزاء سورية، لكن الموقف الروسي إزاء سورية لم يكن متعلقاً بمجرد قاعدة بحرية كما أخطأ كثير من المحللين السياسيين ولا كان متعلقاً ببضعة مليارات، بل ارتبط بمفهوم الأمن القومي الروسي نفسه، فروسيا تحتفظ بذاكرتها بالكثير عن سنوات التسعينات عندما تعرضت لأحد أكبر عمليات النهب في التاريخ على يد الغرب، حيث جرى بالإضافة لنهب المليارات من ثروات روسيا الطبيعية تفكيك ما يزيد عن 10 آلاف معمل سوفييتي ونقلها إلى أوروبا، ومن ثم إن القيادة الروسية التي استعادت استقرار البلاد في عهد بوتين تدرك جيداً حقيقة النهم الاستعماري الغربي الذي لا يتوقف عند بلد ولا يحده حد، وتدرك أن نجاح تجربة الثورات المصنعة المدارة من قبل السي آي إيه والممولة بالمال الخليجي في سورية، يعني تكرارها في دول أخرى، منها روسيا التي تتعرض لمحاولة تطويق من قبل الناتو عبر إغراء دول أوروبا الشرقية المحيطة بالانضمام للحلف العسكري الغربي، بل إن روسيا التي تتشكل من اتحاد كونفدرالي يضم 14 جمهورية تسع منها ذات أغلبية مسلمة تعلم أن حرب الشيشان في التسعينات لم تندلع بمعزل عن الجهود الغربية الممولة خليجيا والهادفة لتفكيكها، كما تعلم أن قسماً كبيراً من الإرهابيين الشيشانيين الذين استجلبتهم المخابرات التركية للقتال في سورية ما هم إلا مشاريع مفخخات موقوتة سيجري استخدامهم داخل روسيا نفسها مستقبلاً.

أصيبت الجهود الإعلامية الرامية لتدمير معنويات السوريين عبر التشكيك بموقف حليفهم الروسي بنكسة كبيرة بعد التدخل العسكري الجوي الروسي المباشر دعماً للدولة السورية وجيشها، وبعد أن سالت الدماء الروسية على الأرض السورية، لكن تلك الجهود لم تتوقف، فجرى اصطناع كذبة أن التدخل الروسي جاء بتنسيق مع العدو الصهيوني، وتم اصطناع تاريخ مزيف للصراع العربي الصهيوني صورت فيه روسيا حليفا للعدو الصهيوني وحريصاً على أمنه، وذلك على الرغم من أنف التاريخ الحقيقي، الذي كانت روسيا فيه المسلح شبه الوحيد للجيوش العربية المدافعة عن بلدانها في وجه العدوان الإسرائيلي، وعلى الرغم من أن الدماء الإسرائيلية التي سالت طول عمر هذا الصراع إنما كانت بواسطة أسلحة روسية، بل مثل سلاح الكورنيت الروسي حجر الزاوية في عملية تصدي المقاومين في جنوب لبنان وغزة للجيش الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة، حتى تحول الكورنيت إلى رمز سقوط أسطورة دبابة الميركافا الإسرائيلية، لقد مر الكورنيت عبر سورية إلى المقاومين في لبنان وغزة.
كما عملت الجهود الإعلامية الهادفة للتشكيك بالعلاقة الروسية السورية على محور آخر هو محور تصوير العلاقة بين الطرفين على أنها علاقة بلد مستعمر ببلد تابع تجري الصفقات على حسابه، وكان آخر ذلك التقاط التصريح الذي قاله "ريباكوف" نائب وزير الخارجية الروسية عن قضية "الفيدرالية" في سورية، والذي جاء رداً على سؤال نصه: هل تعتقد أن سيناريو كوسوفو، يمكن تطبيقه في سورية؟
فأجاب ريباكوف: "إن التركيز الحالي لدى روسيا هو دعم الحوار في جنيف.. ولكن إذا تم طرح موضوع مثل كوسوفو، فنحن نؤكد على وحدة الأراضي السورية.. ولكن من يضمن لنا ألا يأتي بعض المشاركين في جنيف بأفكار محمولة من على بُعْد آلاف الأميال تحمل أفكاراً فيدرالية".

وبغض النظر عن الهدف الروسي من التصريح وبغض النظر عما إذا كان بقصد تنفيذ مناورة سياسية لتهديد تركيا بإقليم كردي على حدودها في حال لم تلتزم بالانكفاء عن دعم الإرهابيين في سورية، فقد جرى استغلال التصريح الروسي السابق من قبل وسائل الإعلام الخليجية للترويج لحدوث صفقة روسية أميركية ستنتهي بتقسيم سورية على أساس طائفي وعرقي، وذلك رغم أن الوقائع على الأرض لا تتسق مع ذلك السيناريو، حيث تسيطر الدولة السورية على المدن والبلدات التي يعيش فيها ما نسبته أكثر من 85% من السوريين القاطنين اليوم على الأرض السورية نحو 18 مليون سوري، في حين يسيطر كيانا داعش والنصرة الإرهابيان على الرقعة الأخرى المهمة من سورية، وهم الكيانان اللذان اتفق العالم كله عبر قرار مجلس الأمن الأخير ضرورة اجتثاثهما، في حين لا تمتلك الميليشيات الكردية السورية فرصة حقيقية لإقامة إقليم كردي سوري شبيه بنظيره العراقي، وذلك على الرغم من توسعها بدعم سوري وروسي في مناطق لا يشكل الأكراد أغلب سكانها، حيث جرى تسهيل ذلك لضرورات المواجهة مع التشكيلات الإرهابية المدعومة من الجانب التركي على طول الحدود الشمالية لسورية.

كما يتجاهل مروجو سيناريو الصفقة الروسية الأميركية حقيقة أن الجيش العربي السوري يشكل القوة العسكرية البرية الأهم في الحرب التي تخوضها روسيا اليوم على الإرهاب وهي الحرب التي ستحدد نتائجها إلى حد كبير مكانة روسيا في توازنات العالم الجديدة، حيث يجري حسم نتائج المعركة على الأرض أولاً، وهذا ما أكده التصريح الأخير لوزيرة الدفاع الايطالية روبرتا بينوتي والتي أقرت خلال مقابلة مع قناة راي الثانية الإيطالية بأن "الجيش العربي السوري يقاتل الإرهاب نيابة عن العالم أجمع بحربه ضد التنظيمات المسلحة في سورية وذلك على الرغم من محاولة التعتيم على تلك الحقيقة في الأوساط الغربية".

لقد اختارت روسيا التدخل عسكرياً في سورية التي لا تتمتع بشيء من الثروات النفطية الموجودة في ليبيا حيث أحجمت روسيا بل ويحجم العالم عن التدخل في مواجهة الإرهابيين هناك حتى الآن، وذلك بسبب حقيقة أن الدولة الوطنية السورية وجيشها هما أساس الرهان الروسي المعقود على تحقيق النصر على الإرهاب، لذلك وعكس ما يوحي به الإعلام المعادي لا يمكن لروسيا عقد الصفقات على حساب حليفها الأهم الذي أدى صموده لإسقاط عصر الأحادية القطبية ومنح روسيا فرصة العودة للساحة الدولية من أوسع أبوابها، بل إن تقسيم سورية يعني استراتيجياً نجاح المخطط الغربي الهادف لإعادة هندسة وتشكيل الدول ورسم حدودها بما يناسب المصالح الغربية وذلك عبر لعبة الثورات الممولة خليجياً، وهو ما تدخلت روسيا أصلاً لمنع حدوثه كونه يهدد أمنها القومي، وما الإعلان الروسي عن سحب القوات من سورية سوى رسالة قوية مفادها جئنا لدعم الشرعية السورية ولا ننوي البقاء للأبد، في حين تقول الحقائق على أرض المعركة أن التغير لصالح الجيش العربي السوري وحلفائه في ميزان القوى العسكرية صار ثابتاً وإلى غير رجعة، وأن هزيمة الإرهاب أضحت مسألة وقت لا أكثر، وأن الدعم الروسي بما فيه الجوي متوافر عند الضرورة، وذلك بفضل بقاء قاعدة حميميم الجوية الروسية وبقاء صواريخ الإس- 400 الدفاعية لحمايتها.
 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=32856