وجهات نظر

عروبة ما بعد المصالحة بين إيران والعالم

فريد الخازن


الإعلام تايم-السفير

لم تكن بلاد فارس أو إيران هاجس العروبة وأركانها، سياسيين وعسكراً ومفكرين. انطلقت العروبة رفضاً "للتتريك" العثماني وسرعان ما أخذت "الثورة الكبرى" التي قادها الشريف حسين في 1916 بدعم بريطاني منحى حاسماً. بعد انتهاء الحرب الكونية وانهيار السلطنة، تلازمت العروبة مع رفض "التغريب" عبر التصدي للانتداب الفرنسي والبريطاني والمطالبة بالاستقلال، لا سيما في المشرق. ولم تلبث أن أخذت العروبة مضامين أيديولوجية تماهت مع التوجهات السائدة في أوروبا، فرنسا تحديداً، حيث تأثر مؤسسو البعث بالفكر الاشتراكي، كما تأثر آخرون، لا سيما ساطع الحصري، بالتجربة التي أدت إلى توحيد ألمانيا وإيطاليا.

 

جَهَد المؤسسون بداية لاستنهاض العروبة في الوسط العربي، أي "تعريب" العرب، إذا جاز التعبير. قبل الناصرية كان السعي لجذب مصر الى العروبة، ومع عبد الناصر تمّت الوحدة بين مصر وسورية. وبموازاة الوحدة، بدأ التصدي للمشروع الصهيوني في العشرينيات في فلسطين وخارجها. وبعد قيام دولة "إسرائيل" في 1948 باتت مواجهة الاحتلال قضية قومية جامعة. وجاءت هزيمة 1967 واحتلال "إسرائيل" كامل فلسطين وسيناء والجولان لتبدّل المعادلة: من الوحدة العربية أولاً ومن ثم فلسطين، إلى فلسطين أولاً، تمهيداً للوحدة. إنه جيل الكفاح المسلح والعمل الفدائي. وما التحول في مسار حركة القوميين العرب بقيادة جورج حبش قبل حرب 1967 وبعدها سوى انعكاس لهذا الواقع.


بإيجاز، مسألتان شكلتا نبض العروبة: الوحدة وفلسطين. ففي حين أن التحرير من الاحتلال جمع العرب بعد 1967، فإن مساعي الوحدة فرّقتهم. وقع الصدام داخل الصف العربي الواحد لأسباب متنوعة، أبرزها الصراع على السلطة: في سورية  الانتداب، بين الكتلة الوطنية وحزب الشعب، ولاحقاً بين بعثييّ العراق وسورية. الانفصال بين البعث وعبد الناصر بدأ في 1961 ولم ينتهِ.

 

همّ زكي الأرسوزي بداية كان استعادة الاسكندرون، "اللواء السليب"، إلى سورية العربية، بعدما ضمّته تركيا بدعم فرنسي. كما أن همّ قسطنطين زريق عكس واقعاً مغايراً عن زمن نجيب العازوري في مطلع القرن العشرين، وسعدالله الجابري وسواه في زمن آخر. فلسطين القضية جمعت أنطون سعاده وميشال عفلق على رغم الاختلاف في العقيدة القومية. ولم تكن مصر المَلَكية معنية بالحراك العروبي في زمن سعد زغلول وتوفيق الحكيم وطه حسين.

 

انطلق الفكر القومي العربي من فرضية أن الدول القائمة كيانات صنعها الاستعمار خدمة لمصالحه، على رغم أنها جسّدت واقعاً جغرافياً وسياسياً وقانونياً ومصالح شتى على حساب الأمة الموعودة. "نفيان لا يصنعان أمة"، بحسب مقولة جورج نقاش الشهيرة في حال لبنان بعد الاستقلال. وللعروبة أيضاً نفيها المزدوج، بوجه العثمانيين والانتداب ولاحقاً بوجه الغرب و"إسرائيل". ففي حين أن العداء العربي "لإسرائيل" لا يزال مشتركاً، إلا أن "إسرائيل" الدولة لم تعد عدواً مشتركاً بعد معاهدة السلام بين مصر و"إسرائيل" في 1979 والمعاهدة المماثلة مع الأردن في 1994، فضلاً عن اتفاق أوسلو وتبعاته التطبيعية في مناطق السلطة الوطنية في فلسطين.

 

لم يكن للعروبة أثر يُذكر في انتفاضات الربيع العربي. طغت الهموم الوطنية الداخلية على الاعتبارات القومية في ظل جامعة عربية معطلة وعالم عربي منهك. وحده "حزب الله" تصدى للاحتلال "الإسرائيلي" في السنوات الأخيرة، وكان بذلك في الخط التاريخي للعروبة، وإن بعباءة إسلامية وبدعم إيراني وصل أيضاً إلى القوى الفلسطينية المقاوِمة للاحتلال في فلسطين. إنها سياسة نفوذ إقليمي اعتمدتها إيران منذ عقود، شأنها شأن أي دولة، عربية كانت أم غربية أم إسلامية. فما من طرف إقليمي ودولي قادر إلا ويسعى إلى "التمدّد" بأي وسيلة متاحة.

 

"العدو المشترك" الذي تحاول السعودية تظهيره الآن باستنهاض عروبة متخاصمة مع إيران الفارسية لم يكن ليخطر ببال دعاة العروبة في مختلف حقباتها، من زكي الأرسوزي إلى محمد حسنين هيكل، مروراً بصلاح الدين البيطار وفارس الخوري. نزاعات المنطقة محرّكها اليوم الدين والدولة لا القوميات، عربية أو سواها. وغالباً ما تكون القوميات بحاجة الى عدو مُعلن، إلا أن العروبة في زمن الدولة الوطنية ومصالح النفوذ والسلطة لم تعد تفي بالغرض.

 

سواء جمعت أو فرّقت، عروبة "آخر ساعة" لن توقف مسار التحولات في علاقات إيران مع الدول الكبرى، حيث المصالح حيوية للأطراف كافة، ولن تُعيد للعروبة وهجاً افتقدته منذ زمن الناصرية. الأداة الجديدة في متناول الدول تتمثل بفرض عقوبات لمحاربة الإرهاب. ولقد وصلت "الموضة" إلى المنطقة. كيف يمكن التصدي لأي إرهاب بعروبة فقدت قضاياها الجامعة بين العرب أنفسهم وتجاه العدو، لأي هوية انتمى؟

 

في منطقة تلفّها المآسي والخيبات، لم يبقَ سوى الإرهاب أداة إجماع بلا مضمون: أكراد العراق وسورية مصدر الإرهاب الوحيد بحسب أنقرة، و "حزب الله" مصدر الإرهاب الجديد بحسب الرياض، وإرهاب "داعش" مُعوْلم يتكفّل به التحالف الدولي. أما إرهاب "إسرائيل"، الأقدم والأعتى، فلا يُقلق سوى قلّة، والأعلى صوتاً منهم عرب "إسرائيل".

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=32717