وجهات نظر

بعباءة أخرى و"شماخ" آخر..

عبد المنعم علي عيسى


الإعلام تايم - مقالات وآراء 

بين الثاني والرابع من آذار الجاري شهدت المنطقة حدثين كانا على درجة عالية من الأهمية، وهما يصلحان لأن يكونا حلولاً لكلمات متقاطعة كانت حتى الأمس القريب عصية على الحل أقله بالنسبة للأغلبية التي باتت تعتمد المجسم- والملموس- فقط في بناء قناعاتها، ففي الثاني من آذار أصدر مجلس التعاون الخليجي قراراً صنف فيه حزب الله اللبناني منظمة إرهابية على لوائحه رامياً بذلك قفاز التحدي بوجه ما تبقى من البلدان العربية مظهراً عجزها عندما تقرر بعد استراحة يوم واحد أي 4/3/2016 استصدار قرار مشابه عن جامعة الدول العربية الأمر الذي تحقق في اجتماع هذه الأخيرة على مستوى وزراء الداخلية وفيه تبدى جلياً أن الجميع قد اتخذوا قراراً بترك الحبل على غاربه في مسار لا يبدو أنه سيقف عند حدود معينة على الرغم من خطورة الحدود التي وصل إليها حتى الآن، إذاً المعركة لم تعد معركة كسر عظم فقط بل تعدتها إلى أبعد من ذلك بكثير لتصبح معركة وجود حقيقية، والأهم أنها مرهونة بزمن محدد تراه الرياض أنه الأنسب الآن، ما عادت عملية إماطة اللثام عن الوجوه بمهمة، كما لم تعد عمليات التستر وراء الأقنعة ضرورية، كم كان ناصر بن سعيد ثاقباً وبعيد الرؤية وماهراً في تجميع مفرداته التي تركها لنا في كتابه "تاريخ آل سعود" ليصبح اليوم الغائب الأشد حضوراً فهو قال كلمته ومن ثم مشى نحو الأمام دونما التفاتة- مهما تكن بسيطة- إلى الخلف.

 

عانى مخفر الغرب المتقدم منذ وقت ليس بالقصير حالة كسل وظيفي بات يهدد في العمق دوره الذي وجد لأجله، ظهر ذلك جلياً في حضور الأصيل الأميركي بنفسه لغزو العراق (آذار- نيسان 2003)، حيث سيؤكد الفشل المتكرر فيما بعد صوابية الرؤية الأميركية بعدما عجز (ذلك المخفر) عن تحقيق ما هو مطلوب منه في حروب غزة الأربع (2008- 2009- 2012- 2014)، وبين الحدثين (غزو العراق وحروب غزة) عمدت واشنطن من جديد إلى اختبار مخفرها في الشرق حيث ستظهر كونداليزا رايس (وزيرة الخارجية الأميركية بعد ساعات من انطلاق العدوان "الإسرائيلي" على حزب الله 12 تموز 2006 بدور الناطق الرسمي باسم تلك الحرب لتعلن أن ما يجري الآن هو آلام مخاض ضرورية لولادة الشرق الأوسط الجديد، والذي مات على الأرجح في رحم أمه بعدما عجزت القابلة "الإسرائيلية" عن القيام بإنقاذه، قرأت واشنطن نتائج تلك الحرب على أنها حالة تدن قصوى في لياقة تل أبيب العسكرية بالتزامن مع حالة نهوض عام لخصوم هذه الأخيرة باتت تهدد التفوق "الإسرائيلي" أو تصيبه في مقتل.

 

برز خلال حرب الثلاثة والثلاثين يوماً موقفان لافتان أولهما جاء على لسان الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك واصفاً قيادات المقاومة بـ"المغامرين" بينما جاء الثاني من الرياض التي أعلنت على لسان وزير خارجيتها السابق سعود الفيصل في أعقاب صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن 14 آب 2006 بأن الرياض ترى أن القرار المذكور "غير كافٍ إلا أنها تقبل به" آنذاك وعلى الرغم من أن موقف هذه الأخيرة كان متقدماً إلا أن واشنطن كانت ترى فيه انكفاءً غير مبرر أو ضبابية ليست ضرورية انطلاقاً من رؤية راسخة مفادها أن السياسات النيو براغماتية المفرطة التي اعتمدتها الرياض تجاه الصراع العربي- "الإسرائيلي" كانت قد فعلت فعلها في الدفع بالشارع السعودي (والخليجي) نحو انزياحات بعيدة عن ذلك الصراع.

 

منذ مطلع القرن الحادي والعشرين بدا واضحاً أن الولايات المتحدة ذاهبة إلى التجريب في إمكان إحداث "تكويعة" في مسار الصراع القائم في المنطقة عبر تعويم الصراعات المذهبية فيها ولم يمض وقت طويل حتى تبين أن الغرس الأميركي قد بدأ يؤتي أُكله حيث ستعلن وزيرة الخارجية "الإسرائيلية" تسيبي ليفني 15/8/2006 "إن الصراع في المنطقة قد بات الآن بين قوى الاعتدال وقوى الإرهاب" مشرعة بذلك الأبواب نحو فرز عمودي جديد لقوى الصراع تتموضع تل أبيب فيه في القلب بعد أن كانت خارجاً على مدار العقود الماضية.

 

شكلت حرب الكويت (كانون الثاني، شباط 1991) إرهاصاً مسبقاً لتأطير الصراع القائم في المنطقة وعلى الرغم من أن واشنطن قد ذهبت نحو توزيع جوائز الترضية في مؤتمر مدريد للسلام (30 تشرين الأول 1991) إلا أن تل أبيب كانت تدرك في العمق أن الهدف الأميركي الأكبر الذي تسعى واشنطن إلى تحقيقه من وراء ذلك المؤتمر هو العمل على تحجيم الدور "الإسرائيلي" في المنطقة بعدما أضحى الصراع العربي – "الإسرائيلي" ثانوياً ما دفع بقوى "الظل"  "الإسرائيلية" إلى إبعاد فرس الرهان الأميركية المتمثل برئيس الوزراء "الإسرائيلي" إسحاق رابين الذي اغتيل في 4 تشرين الثاني 1995.

 

قرأ الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل غزو صدام حسين للكويت 2 آب 1990 على أنه يمثل أزمة عميقة بين أهل المدينة (العراق) وزعماء القبائل (مشيخات الخليج) وإذا ما حاولنا ممازجة الصورة بين النظريتين السابقتين أمكن لنا الخروج برؤية جديدة مفادها: إن الصراع القائم في المنطقة قد بات بين أهل المدينة (المعتدلون) وأهل القبائل (المتطرفون) وهو ما تشجعه واشنطن الآن كمسار لا غنى عنه لإنزال الثقل "الإسرائيلي" عن الكتف الأميركية بعدما بات هذا الأخير عبئاً كبيراً قياساً إلى كم المكاسب المتأتية منه.

 

فيما بعد ذلك لسنوات سيقول آفيخاي ادرعي (الناطق باسم الجيش الإسرائيلي): "إن العرب أمة متكاسلة أدمنت الذل والفشل فوهنت قواها" ما يفرض بالضرورة تبني تل أبيب لسياسات تقوم على التحطيم الذري لهيولى النويات القادرة على أن تمارس (أو تشجع) الخروج عن السياق السابق، ولم يكن صعباً بالتأكيد تلمس أن حزب الله هو أخطر تلك النويات وخصوصاً أن المناخ الذي تعيشه هذه الأخيرة غير مواتٍ أصلاً لنموها أو تطورها فمصر تعيش منذ الثمانينيات حالة موت سريري غير معلن ومعها مؤسسة الجامعة العربية قبل أن تقرر القاهرة كما يبدو البدء بإجراءات الدفن وتوكل تلك المهمة لأحمد أبو الغيط (وزير الخارجية المصري الأسبق) المقترح حالياً أمينا عاماً للجامعة، أما دول المغرب العربي فهي محيّدة أمام الاندفاعة الخليجية المستفيدة من وهن محور دمشق- القاهرة ولا يمثل هنا تصريح الباجي قائد السبسي (الرئيس التونسي) 4/3/2016 الذي أعلن فيه استياءه لقرار وزراء الداخلية العرب أكثر من تسجيل نقطة نظام كانت تبدو ضرورية انتصاراً لتاريخ عريق لهذا الأخير- ولحزبه ذي المواقف العروبية والعلمانية المشهودة منذ أن برزت الإمبريالية العالمية أواخر القرن التاسع عشر كقوة تطمح لإدارة هذا العالم عملت خلال مسعاها ذاك على استحضار ايديولوجيات حاكمة تتناسب مع كل مرحلة من مراحل الصراع العالمي، فقد اعتمدت (مثلاً) الفاشية والنازية كإيديولوجية لازمة وقادرة على تجاوز الانهيار الكبير الذي شهدته الرأسمالية العالمية عام 1929 ثم أعادت الكرة من جديد عندما استخدمت الأزمة الأوكرانية (تشرين الثاني 2013) لسبر الأغوار الأوروبية ومدى قوة- أو ضعف- الرصيد الذي تملكه الإيديولوجيتان السابقتان حتى إذا ما تأكد الضعف تلاشت الآمال الأميركية في استثمارها الآنف الذكر لنرى هدوءاً ربما غير مبرر على الساحة الأوكرانية بدءاً من منتصف عام 2014 فصاعداً.

 

كما استخدمت الإيديولوجيا الصهيونية للسيطرة على قلب العالم الشرق أوسطي إلا أن محدودية عدد اليهود في العالم جعل من هذا الخيار هشاً إضافة إلى العزلة المضروبة حول تل أبيب ما يجعلها بالضرورة خارج المنافسة في مسارات من هذا النوع.

 

منذ بداية الثمانينيات عملت واشنطن على الاستثمار في الوهابية السياسية لتحقق نجاحات في أكثر من مكان لعل أبرزها ظاهرة (الأفغان العرب) الذين أرسلتهم لمحاربة "الاتحاد" السوفييتي إلا أن هذا المسار قد بات مهدداً بالانهيار وخصوصاً بعد اتفاق فيينا 14/7/2015 الذي أنتج تصالحاً إيرانياً مع الغرب وواشنطن.

 

وضع حزب الله على لوائح الإرهاب الخليجية (والعربية) دفعة قوية على الحساب كما يقال تسعى الرياض من خلالها إلى طرح نفسها من جديد بعباءة أخرى.. و«شماخ» آخر.

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=32561