وجهات نظر

إعلام قذر

قاسم عز الدين


الاعلام تايم - السفير

ما كان معروفاً بتسمية «مهنة المتاعب»، كان إلى حدّ ما خدمة عامة محكومة بأخلاقيات حازمة في البحث عن المعلومة وفي تدقيق الخبر أو الجدّ المضني في صناعة التحقيق وإنتاج الرأي والتحليل.

فهي انتمت إلى الحقل الثقافي بمثل هذه الأخلاقيات المهنية وأوالياتها الخاصة بحرفة نقل المعرفة وتداولها في أسسها الثلاثة المؤسِّسة (الخبر في طيّاته، الحدث في أبعاده، وما يسمى «التسلية» بلغة المهنة وهو في منطلقه «الترفيه» المفيد). وفي هذه الأسس أساس لما يُطرق عن أخلاقيات مهنية نبيلة بشأن المحافظة على «الموضوعية والحيادية والنزاهة....» كالحديث في تبجيل «رسالة» الإعلام والقضاء والطبابة والتعليم وغيرها. إنما وظيفة الإعلام منحازة بطبيعة المهنة للشأن العام في نشاطات الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية... فهي في الموقع النقيض لشؤون مراكز القوى والنفوذ والمصالح الخاصة الضيّقة، في استخدامها أدوات وأخلاقيات تعميم المعرفة في المنظومات الناظمة للحيوات وبيئتها الفكرية والثقافية والطبيعية والسياسية... ولا ينتمي الإعلام لأي سلطة ولا هو «سلطة رابعة» كما ذهب أب المحافظين الأنكلو ــ ساكسون إدمون بورك، في إطلاقه على الإعلام تنديداً بالثورة الفرنسية التي «أخلّت بتقاليد الحكم الملكي» في حصرها السلطة بثلاث مؤسسات (نقد بلزاك في المجلة الباريسية، 1840 لكتاب بورك «ردود على الثورة في فرنسا، 1790، باريس»). إنما الإعلام هو «مرآة هموم المجتمعات وتطلعاتها»، في نقل الهموم والتفاعل فيها بحثاً عن التطلعات التي ينتجها التواصل والحوار في المحتوى الإعلامي (فرنسيس بال، قاموس الميديا، أمازون، باريس، 1998).


وظيفة المرآة في نقل المحتوى وفي الحوار بالتطلعات هي التي انقلبت إلى سلاح دمار في تحوّل الوظيفة إلى مجرد وسيلة اتصال «ميديا» (كلمة لاتينية جمع ميديوم بمعنى وسيلة الاتصال وبيئتها). فالقذارة التي تبثّها «الميديا» حضّاً على استهلاك «المعلومات» تحمل في طيّاتها قيَم منظومة الخراب المعولم شرقاً وغرباً، المنتجة لثقافة الدمار والذبح والاحتراب. وما يبدو عارياً في الشتائم الوقحة والحوربَة بالدم ليس سوء أداء ناتئ عن طبيعة «الميديا» كما يُشاع تذمراً لتبليد الحسّ النقدي، إنما هو نتيجة التحوّل عن الوظيفة الإعلامية المنتمية بمضمونها إلى الحقل الثقافي، في اتجاه طغيان أدوات الاتصال وتقانتها بمحسّنات الصوت والصورة والوجه الحسن. انتماءً إلى الحقل التجاري. ففي كتابه «غالكسي غوتنبورغ، منشورات جامعة تورنتو، 1962» يشق «هيربرت ماكلوهان 1911ــ 1980» طريق الانقلاب على وظيفة الخدمة الإعلامية في ذهابه إلى أن تقانة وسائل الاتصال الحديثة هي إعادة تنظيم كاملة لحياة المجتمعات والأفراد حول محور «المعلوماتية». (يرى المحتوى الإعلامي والثقافي عرَضياً وثانوياً مقابل أهمية قناة الاتصال!). فهو يبشّر منذ الستينيات بما يسمى «ثورة المعلومات» في ثقافة الاستهلاك السريع لحشو المتلقي بسموم مبهرجَة تتخذ بدانة المعرفة شكلاً فيمن شحمه ورم. لكن هذه العلاقة الآلية من المرسِل إلى المتلقّي هي مرتع انفجار تجارة الغرائز والعصبيات في علاقة بهائمية للتواصل عبر قرون الاستشعار، بينما التواصل الآدمي هو علاقة ثنائية تفاعلية تقوم على المحتوى الإعلامي في نقل المعرفة لإنتاج الآراء والأفكار (ريمي ريافيل، سوسيولوجيا الميديا، ألِّيبس، باريس، 2003).


في انتماء الإعلام بمضمونه إلى الحقل الثقافي وانتماء «الميديا» في تقنياتها إلى الحقل التجاري، عالمان نقيض واحدهما الآخر بين عالم المعرفة وعالم السوق. فمنظومة «الميديا» تنتج لزبائن السوق سلعة سريعة الاستهلاك سيئة الصُنعة على عجل لإشباع جوع افتراضي يتخذ من كَثرة الضخ إشباعاً، فيما الضخ السريع جرعات سامة حلوة المذاق تُتخم بكمٍّ سقيم لا يُشبِع من جوع غذاء المعرفة. فهي تتخذ زبائنها رهائن السباق مع الوقت بحثاً عن المزيد من استهلاك سموم بطيئة، لا تسدّ الرمق في معلومة يجري بثّها كيفما اتفق بكلمتين، أو ترويج حدث بجملتين ونشر رأي بسطرين. فإنتاج المعرفة الآدمية يتطلب الجهد والوقت في التصنيع للوقوف على معنى المعلومة وعلى طبيعة الحدث وعلى تشابك الخبر. كما أن التواصل المعرفي يتطلب بدوره الوقت لتفاعل يؤدي إلى تراكم ثقافي تذهب به عجلة تصنيع الهواء واستهلاكه كمّاً في الهواء. وليس في الأمر سوء تدبير يمكن تلافيه بشيء من «الموضوعية» في تهذيب لغة الاتصال، إنما «الميديا» مصنّعة بإتقان في تأسيسها لصناعة التلاعب بالعقول وتنميق الكذب القابل للتصديق.


ما يسمى الخبر العاجل يرمز بطبيعة عجلته إلى إيحاءات تتوخاها بقصد مدروس الوسيلة الإعلامية الضاربة عرض الحائط مسبقاً بالمحتوى الإعلامي. ونشرة الأخبار تروّج الحدث على هوى مالكي وسائل الاتصال في تمطيط ما يحلو وتورية ما يخرج عن الهوى. لكن الوسيلة الأكثر احترافاً بالتضليل الإعلامي هي الأكثر حرصاً على إشاعة السموم بمظهر «موضوعي» في اتخاذها «الحيادية» سنداً كالرأي والرأي الآخر وغيره. وفي هذا السبيل تنتج في برامجها الحوارية مثقفي السوق الذين تمنحهم ألقاباً تصطاد بها جمهوراً من الزبائن الذين ينتظرون تأكيد ما جرى التلاعب في عقولهم سلفاً. فهذا الضيف مدير مركز أبحاث وهمي يُتقن الثرثرة في مهارة «الإيصال»، وذاك خبير في توتير الغرائز بلغة عصرية، وذلك مفكّر ضليع أثبت جدارة في التفكير من أين تُؤكَل الكتف. وقلما تبتعد حوارات كهذه عن سكّة مرسومة خطوطها العامة تلقائياً في التحريض على هذا الفريق نفحاً عن فريق خصم. وقلّما ينزلق أحد الضيوف إلى التعدّي على محرمات الوسيلة الإعلامية المضيفَة في التشكيك بسؤال ملغوم أو في الذهاب إلى التداول العقلاني بهموم المجتمعات وتطلعاتها فوق المديح والهجاء. فما إن يهمُّ الحوار أحياناً بالارتفاع عن المستوى المعهود، حتى يهبّ مقدّم البرنامج للعودة إلى مألوف السياق بسردية تلفيقية تنتهي غالباً بسؤال أليس كذلك؟


العاملون في وسائل الاتصالات الحديثة ليسوا في معظمهم صحافيين وإعلاميين. فهم على الوجه الأعم نجوم ومشاهير يُقدّر أحدهم بمقدار بلائه في ترويج سلعة الاستهلاك السريع في السوق. (مونيك دانيو، حرفيو الخيال، أرمون كولان، باريس، 2006). فالمقدّم التلفزيوني الأكثر نجومية هو الأكثر نجاحاً في جذب الزبائن إلى لحس المبرد في «صندوق الفرجة»، حيث المبارزة على أشدّها بين زير عالم بالتنجيم وزير علّامة بالتلفيق، وحيث القحط الفكري والمعرفي يمكنه «تسمير» المتفرّج أمام مسرح هزلي ــ درامي قميء التمثيل الفنّي. وفي مثل هذا الرَبع لا بدّ من صبغة ثقافية ــ فكرية على «عدّة النصب» لتعزيز خيال الجمهور بكسب المزيد مما يتخيّله معرفة يتلقاها صباح مساء في أجواء سياسية وثقافية موبؤة. فمقدّم برنامج الضجيج الأشهر، هو على ما يقدّم نفسه في سيرته الذاتية «دكتور في الأدب» له طول باع في تأليف الكتب والدراسات البحثيّة. لكنك لا تعثر لأبحاثه على أثر إذا تجشّمت عناء البحث عما تحاول قراءته وراء السباب القحّ. ومقدّم ذاك البرنامج يتخذ الإيحاء سبيلاً لادّعاء التبحّر بثقافة فكرية لا يبعد فيها أبعد من أنفه، وغيره يتخايل كالطاووس بتفاهات يهلّ بها هلاله على ما يغرف من خزائن أسرار العالم. لكن نجوم «الميديا» ومشاهيرها ليس لهم نفوذ فيهم ومنهم، إنما يستمدونه من نفوذ «الميديا» واجهة سلطة طبقات الحكم والمال والأعمال. فـ»الميديا» ليست سلطة إنما هي واجهة تضرب بسيف السلطة للتلاعب بعقول زبائن متلقّين أدمنتهم منظومة الخراب الاجتماعي والسياسي والثقافي. على استهلاك جرعات التخدير. «فوسائل الاتصالات الحديثة هي بنت السياسة» (فرنسيس بال).


انقلاب الوظيفة الإعلامية في انتماء المحتوى للحقل الثقافي، إلى تقانة «الميديا» المنتمية إلى الحقل التجاري، هو في سياق تحوّلات منظومة القيَم وأخلاقيات الحياة إلى سلع استهلاك في السوق التجارية.

ولعلّ وجه المقارنة الأقرب هو انقلاب الغذاء الطبيعي إلى غذاء اصطناعي (بلاستيكي) لم تعد آفاته بالسموم تخفى. وربما ما قد يخفى أن هذا الانقلاب بدأ بدغدغة الأحلام في معجزة التقانة لزيادة الكمّ الوفير في سوق الاستهلاك بذريعة «القضاء على الجوع». لكن هذا التحوّل حوّل الغذاء إلى علف بهيمي في سوق استهلاك السلع التجارية، بالتلاعب في جينات البذور في المختبر، وفي التلاعب البرّاني لضخّ الأرض والمياه والهواء بالسموم. إنما هو تلاعب بثقافة التغذية وبعقول الزبائن الذي يتيح القضاء على الأمن الغذائي في سبيل سيطرة المال والبورصات والشركات متعدية الجنسية على الغذاء والأرض والتسويق...إلخ، ففي سياق انقلاب نشاطات ومعاني الحياة الإنسانية، تتحوّل «الميديا» الى سلعة في حقل الاستهلاك واجهة لسيطرة سلطات الحكم والمال والمصالح السياسية والتجارية. فالأقمار الصناعية هي التي تتحكم بالبث المرئي، فتحجب وتبيح على ما يعزّز مكانة هذا السلاح في الحرب الإعلامية والسياسية. ووكالات الأنباء الدولية هي التي تموّن «الميديا» بالخبر والصورة والحدث، فتنتج وتعولم سلعها. وما يقصُر عن التنميط الآحادي يستكمله «غوغل» والشركات الأخرى في ترويج شبه المعرفة على تماس مع التضليل. لكن في نهاية المطاف تقبع مختبرات التلاعب بالجينات الثقافية التي تجرف منها وسائل الاتصال، في عواصم القرار حيث مراكز الأبحاث الكبرى ومراكز دراسات»لوبيات» شركات التسويق والاستخبارات.


ما ينتجه ويستهلكه زبائن «الفايسبوك» في قذارة الحضّ على القتل والدم، يتدفق من النبع في منظومة استهلاك ثقافة الخراب المعولم التي تأسست «الميديا» واجهة لها. المكانات الصغرى البارزة في وسائل التواصل هي مجرد ترميز يتغذى بقذارة منظومة تخريب نشاطات الحياة السياسية والثقافية. (بيار بورديو، سوسيولوجيا الميديا، بشأن التلفزيون، منشورات ريزون داجير، باريس، 1996). العالم والفيلسوف البلجيكي جان بريكمون يقول إذا توقفت «الميديا» ثلاثة أشهر عن التضليل الصهيوني في أوروبا وأميركا، تنهار إسرائيل. لكن ربما إذا تحرّر مستهلكو السموم من عبودية التخدير، في الاتجاه نحو منظومة نشاطات حياة آدمية بديلة وإعلام بديل وغذاء وثقافة بديلة. قد تغيّر البدائل العالم

 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=31916