وجهات نظر

ميونيخ..وما بعده

علي قاسم


الثورة - الإعلام تايم


يضفي الحديث الغربي عن ميونيخ، وما تم الاتفاق عليه، المزيد من الضبابية التي يعاني منها بالأصل، وكل شرح أو إسهاب في الشرح يضاعف الغموض في تفاصيله التي تبدو في معظمها بحاجة لشرح طويل، وربما لتفسير أطول مما هو معتاد أو ممكن،حيث الفارق الوحيد هو إضافة مساحة جديدة للغو على هوامشه، وحيّز آخر للثرثرة في تفسيراته وما يلحق بها، وإن كانت في أغلبها تلعق مما قبلها.‏

 

ورغم المحاولات المستميتة لاستنباط أقنعة، يمكن لها أن تستر بعض ما بان من عيوب وترتق ما استجد من ثغرات، فإن الخطاب الأميركي يرمي سهامه بعيداً في الاستثمار السياسي على ما سبق أن دفنته السياسة الأميركية في سنواتها الماضية، حيث كيري يلوح بالخيارات الصعبة في مقاربة يمكن الاستدلال من خلالها على منسوب النفاق الأميركي بنسخته الجديدة، حيث لم يكد الحبر المسال على اتفاق ميونيخ يجف، حتى انفلت الخطاب من عقاله، سواء جاء من قبل الأدوات الأميركية التي تنبش في أوراقها القديمة وقربتها المثقوبة، أم عبر حلفاء يشحذون سكاكينهم الصدئة.‏

 

في المحصلة يبدو مرجل الحصى في جنيف الذي أوقدته تفاهمات فيينا ومن بعدها نيويورك، يعود ذاته مع مزيد من الطلاء، حيث يقدم كل طرف ما يرغب في سماعه، ويفسر ما يتسق مع تمنياته، فيما نصوص الاتفاق لا تحتمل ما هو أبعد من ذلك، بحكم التداول في سقوف متباينة على أرضية منزلقة تفترض قدراً كبيراً من التأويل، حتى يكاد أن يجيّر ما نتج عن اللقاء، والأخطر قابليته للتفسير المزدوج وعلى القاعدة نفسها أو انطلاقاً من الأرضية ذاتها.‏

 

عند هذه النقطة لا يخلو تلويح كيري بالخيارات الصعبة من إشارات واضحة وصريحة بحتمية السعي إلى تباين في المقاربة، أساسه ما أضيف من شروحات في أغلبها من خارج نص الاتفاق، الذي يحتاج في معظم تفاصيله إلى ملينات هاضمة تخفف من عسر مفرادته، التي تميل إلى الغموض الهدام والتفسير المزدوج وقبولها صيغاً حمّالة أوجه، والذي سيصعّب من مهمة المبعوث الأممي أكثر مما سبق، وربما وضع مسار جنيف ومعه اتفاق ميونيخ في مهب الريح.‏

 

غير أن ذلك كله لا يبدو مجرد افتراضات، كما أراد منها البعض، بقدر ما يحدد مسوغات إضافية للحد من مناخ التفاؤل، الذي أشاعته اتفاقات اللحظة الأخيرة في ميونيخ، حيث استعراض العضلات التركي السعودي قائم على قدم وساق، وتسريبات التحضيرات لعملياتهما البرية والجوية تمضي قدماً مع حديث كيري أو على الأقل تبدو ترجمة متقدمة لما يلوّح به، وهي في جوهرها محاولة استباقية لمنع تلك الافتراضات من الانتشار أبعد من جدران المكاتب التي صاغتها، حيث التحرك الفعلي على الأرض لم يعد مجرد أفكار تراود متوهم السلطنة البائدة أو تدغدغ أحلام الرمال المتحركة، بل تجسدها وقائع التلويح الأميركي الذي يزيل الالتباس الحاصل بكثير من الوضوح.‏

 

والمفارقة أن الانعكاس العملي لا يكتفي هنا بالتلويح بتلك الخيارات، بل يدفعها إلى أن تكون العنوان الأساسي وليس البديل، بدليل أن الفرصة التي أرادها المجتمع الدولي أن تكون وليدة لقاء ميونيخ، هناك من يسارع إلى استحضار بدائله العسكرية جنباً إلى جنب مع شروطه المسبقة، وبالتوازي مع لغة اتهام وتصعيد ضد روسيا، لا تخفي أجنداتها ولا أهدافها الأساسية كأحد البدائل العملية لتعطيل المسار السياسي.‏


ما هو أوضح من هذا وذاك ما يتم رميه على مفارق التقاطعات الحاصلة على أنه مجرد زوائد في التكتيك، لن تغير في الاستراتيجيات المعتمدة أساساً على نماذج من السلوك الموازي لها في جبهات مختلفة، وهو ما يعيد الأمور إلى المربع الأول، حيث ميونيخ ليس أكثر من منصة سياسية تحمي الجميع من مسؤولية تحمل الفشل، وبالتالي كان المؤتمر الصحفي الذي أعقبه شاهد إثبات على حالة خلاف لم تحسم، عندما اضطر الوزير لافروف للتصحيح وللنفي مذكراً بالمرجعية الأساسية وهي القرار 2254، فيما جاءت الإضافات الأخرى لتصريحات لم تتوقف في لغة الثأر من نص اتفاق ميونيخ، ومن الضرورة التي دفعت الجميع إلى القبول بما لا يمكن القبول به من دون أن يتحمل المسؤولية.‏

 

تصريحات ما قبل ميونيخ هي ذاتها ما بعده، والمقاربة التي ابتكرت طبول الحرب، تعود إلى قاعدتها السياسية التي استلت عبرها أو من خلالها سهام الرمي على ميونيخ وما بعده، كما صوبتها على فيينا وما بعدها، وعلى جنيف وما تلاه، والمعضلة الدائمة أنها السهام ذاتها التي تستل من الجعبة نفسها، وترمي على الهدف ذاته، وعلى الموقع نفسه، حيث الاستثمار في الإرهاب في أعلى مراحل خصوبته، والفوارق الشكلية مجرد رتوش بصيغ فواصل منشطة للمنابر الإعلامية التي يسيل الكلام عليها، كما يسال حبر التفاهمات والاتفاقات والقرارات التي يراد لها أن تموت اغتيالاً.‏
 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=31691