وجهات نظر

بين تحريم الشطرنج وتحليل قتل الأبرياء: كش ملك.. كش جنيف

فراس عزيز ديب


الوطن السورية - الإعلام تايم

 

 

إذاً ومن دون سابق إنذارٍ، باتت الشطرنج لعبة محرمة شرعاً في مملكة تقطيع الرؤوس، لأنها وحسبَ مفتي المملكة من الموبقات، تؤدي إلى هدر الوقت والخصومة بين المتنافسين.


قد يكون سببَ إعلان المفتي تحريم اللعبة هو حاجتها إلى التفكير في كلِّ حركةٍ، تحديداً أن "الوهابية" و"التفكير" خطان متوازيان لا يلتقيان، لكن يبدو أن السبب الأهم لتحريمِ اللعبة هو أن خسارةَ أي جولةٍ فيها تكون مترافقةً مع عبارةِ كش ملك.
كش ملك أو كش خادم الحرمين، باتا اليوم تحديداً بما يتعلق في الشأن السوري عنواناً لانتقال مملكة الجهل من إخفاق إلى إخفاق، وانتقالِ حلفائها من تراجعٍ إلى خيبةِ أمل، أما باقي الأدوات فهم أشبهَ بالبيادق التي يجري التضحية بها على رقعة الصراع حتى تُنجز مهمة حماية المُلْك.
إذا قررنا أن نبدأ من حكايةِ التراجعات وخيباتِ الأمل، فعلينا العودة إلى الأيام الأخيرة من العام الماضي، تحديداً ليلة عيد الميلاد، عندما أعلن وزير الداخلية النمساوي أن جهازَ مخابراتٍ وصفه بـ"الصديق" حذَّر الأوروبيين من وقوعِ هجماتٍ إرهابية، يومها تم رفع درجة التأهب الأمني في جميع الدول الأوروبية تحديداً تلك التي استضافت لاجئين. على الرغم من ذلك وفي ليلةِ رأس السنة، أعلنت الشرطة الألمانية عن حدوث عمليات تحرشٍ جماعي من لاجئين دون أن تذكر الشرطة أي معلوماتٍ دقيقةٍ أو حتى مقاطع فيديو موثَّقة توضِّح هذه الحوادث، بل إنها لا تزال تنشر إعلانات جوائزٍ لكل من يقدمِّ معلوماتٍ عما حدث؛ فهل يمكننا أن نصدق أن الألمان باتوا لا يعرفونَ حتى ما يجري على أراضيهم رغم رفع حالة التأهب الأمني المُسبق، وفي محطة قطارات من المفترض أنها مزودةٌ بكاميرات مراقبة في كل مرافقها؟


في المعلومات المتقاطعة، فإن قضية "التحرشات" لم تكن أكثر من قيامِ الحكومةِ الألمانية بتهيئةٍ ما لما ستفعله في الأشهر القادمة، أي إن حكومة ميركل وبعد ما تسربَ عن استعادة التنسيق بين الجهازين الأمنيين (السوري الألماني) وما حصلت عليه من معلومات، حاولت من خلال قضية "التحرشات" الهروب من استحقاقين أساسيين:


الأول: عدم الاعتراف بأن سياسة الباب المفتوح أدخلت الإرهابيين بطريقةٍ غير مباشرةٍ إلى أوروبا عبر تركيا، هم أدركوا أن ما حصلوا عليه من معلوماتٍ قد يكون مجردَ خيطٍ لحقائقٍ كثيرة، فقرروا الهروب من فكرةِ "وصولِ إرهابيين" إلى فرضية "وجود متحرشين"، كون التهمة الثانية لن يكون لها الانعكاس ذاته على الرأي العام الألماني، فيجري طرد الإرهابيين بذريعة التحرش.
الثاني: أن الألمان سيهربون من المواجهة الناتوية مع الأتراك، لأن المنطق يفترض أن جميعَ هؤلاءِ الإرهابيين ينطلقون من تركيا، وهو يثبت ما تحاول قيادات دول الناتو إخفاءه عن الرأي العام لديها والمتعلِّق بالتورط الرسمي التركي في دعمِ الجماعات الإرهابيةِ المسلحة في سورية بكل الوسائل المتاحة، وبدل أن يقف الأوروبيون في وجه طغمة العدالة التنمية، باتوا مستسلمينَ لابتزازاته المالية. ما يدعم هذا الطرح ببساطةٍ هو الإعلان بالأمس عن قيامِ الشرطة الألمانية باعتقالِ لاجئٍ سوري شارك في خطفِ موظفي الأمم المتحدة في الجولان المحتل، عملية الخطف قامت بها يومها "جبهة النصرة" التي تدعمها كل من مشيخة قطر وتركيا في السرِّ والعلَن، ودون تحفّظٍ، بل يسعيان إلى جلبها بمسمياتٍ مختلفةٍ إلى جنيف، حتى أن عملية الخطف هناك من اعتبرها تمويلاً غير مباشرٍ للتنظيم عبر دفع الفديةِ من قطر، هذا الأمر يفتح الباب على مشكلات جديدةٍ، للأوروبيين، لأن الساعين من التنظيمات الإرهابية للوصول إلى أوروبا لا يقتصرون فقط على "داعش" كما يروج البعض، فكل التنظيمات الراديكالية التي تقاتل على الأرض السورية من دون استثناءٍ؛ بما فيها "أحرار الشام" و"جيش الإسلام" لديها أجندة ما في بلادِ الكفار، ولو اضطرت لتُخفي ذلك حالياً فهل سيقتنع الجميع بأن الطرح الروسي بتحديد الجماعات الإرهابية بات حاجةً ملحة؟


قبل أيام زار أميرُ قطر موسكو، فأهداه بوتين "صقراً"، ربما أراد بوتين من خلال هذه الهدية أن يقولَ لضيفه: أتمنى أن أراكم يوماً تمتلكون ما يمتلكه هذا الطير من بعدِ نظرٍ، لأنكم لو امتلكتم بعداً للنظر لما وصلتم إلى هنا.
بدا الوفد القطري بشكلٍ عام وكأنه حمامة سلام، بل أكثر من ذلك، فإن الأمير جهد لنفي المشروع القديم المتعلق بمدِّ أنبوب غاز قطري عبر سورية إلى أوروبا للتخلص من السيطرة الروسية على هذه الإمدادات، المشروع الذي تعتبره أوساط سياسيةٌ أوروبيةٌ أحد أهم أسباب الحرب على سورية،  كذلك الأمر فإن الوفد سعى للتأكيد أن لروسيا دوراً أساسياً في حلِّ الأزمة السورية، ربما أن تجميل الخطاب القطري في موسكو لا يبدو منفصلاً عما يريده الأتراك، ولا يأتي من فراغٍ، بل يأتي من خلال ما يتم تحقيقه على الأرض السورية ويغرِّد خارج السرب الذي يتهم الروس بعرقلةِ الحل في سورية، فهل أننا سنشهد انعطافاتٍ قادمةٍ أشد وضوحاً تنطلق أساساً من الصراع السياسي حول ماهيةِ الوفد المعارض الذي سيحاور الحكومة السورية؟


لم يكن تأجيل اجتماع جنيف بسبب الخلاف على تشكيل وفد المعارضة مفاجئاً، هذا الكلام قلناهُ منذ انتهاء اجتماعات فيينا وتكليف "بني سعود" بتشكيل الوفد، يومها تشكرنا من قام بهذا التكليف لأن "بني سعود" ليسوا محايدين أساساً ليقوموا بهذه المهمة.


ليست المشكلة لدى "بني سعود" في مشاركة "هيثم المناع"، ولا المعارضات المنضوية تحت مسمى "اجتماع الرياض" تخجل من نفسها بوفدٍ يكون كبير مفاوضيهِ "وهابياً تكفيرياً".
مشكلة "بني سعود" تبدو في فرض "تنظيمٍ مسلح" يتبنّى السلفية الجهادية كمشاركٍ في العملية السياسية، هم يريدون موطئ قدمٍ "رسمياً" لإشاعة الوهابية في سورية، ففي السنوات الأربعين الماضية كانت الوهابية تتسرب إلى المجتمع السوري في غفلةٍ أو جهلٍ من الحزب الحاكم بطرقٍ شتى، وبدل أن يلتفت من يحملون راية العلمانية لهذا التسرب، بصموا على شرعيةِ استضافة "محمد العريفي" في جامعة حلب ليحاضر في شبابها.


كذلك الأمر فإن إصرار "بني سعود" على نسفِ المؤتمر وعدم الخضوع لفرضية تعديل الوفد أو توسيعه، أرادوا من خلاله استفزاز الروس، تحديداً أن لافروف أعلنها صراحةً بأن "جيش الإسلام" تنظيمٌ إرهابيٌ عدو لروسيا، والأهم أنهم أرادوا وقف تقدم الجيش العربي السوري باتجاه الغوطة حيث معقل إرهابيي "جيش الإسلام"، لأن وجود هذا الإرهابي على طاولة المفاوضات سيعني حُكماً وقف العمليات العسكرية على هذا التنظيم، تحديداً أن هذا التنظيم هو الخط الأخير لاحتمال تشكيل قلقٍ على العاصمةِ دمشق وتأمينها بعد الاتفاقيات المتتابعة في أكثر من منطقةٍ، التي أفضت إلى خروج العناصر الإرهابية ونقلهم إلى خارج العاصمة كما حدث في القدم.


من جهتهم، الروس والسوريون باتوا أكثر ارتياحاً لما يجري، مع التقدم على الأرض أصبحوا جاهزين للتفاوض، لدرجةٍ دفعت بدي ميستورا لاتهام "بني سعود" فعلياً بعرقلة الجهود الرامية للتوصل إلى حلٍ.


المشكلة أن "بني سعود" لم يكتفوا بعرقلة الحل فحسب، لكنهم وقعوا في ورطةٍ عندما طلبوا من المعارضة أن تعلن أنها لن تشارك في جنيف إذا شارك طرفٌ ثالث، ربما هذا ما يبحث عنه الروس ومعهم الأميركيون ضمنياً.


بمعنى آخر حتى في زيارة كيري لمملكة "بني سعود"، ماذا عساه أن يفعل، هو إن نجح في محاولات إقناعهم بالقبول بتعديل أسماء المشاركين في المؤتمر وعدم تجاوز قرار مجلس الأمن، فكيف سينجح في إقناعهم بسحب المشاركين المنتمين لتنظيماتٍ إرهابية، وإذا كان الاتفاق على أسماء التنظيمات الإرهابية لم يتم، فعلى أي أساسٍ سوف تتم المفاوضات، والنقطة الأهم ما البديل فعلياً لو لم تنجح جهود تعديل مواقف "بني سعود"؟


البديل واضحٌ، وربما عبَّرَ عنه الروس بطريقةٍ مباشرةٍ، وهي دعوة المعارضة بمَن حضر، لكن هناك من سيقول إن أدوات "بني سعود" لن يسكتوا، تحديداً أن عدم حضور الوفد المُشكّل "سعودياً" سيعني استمرار القتال، وهل من عاقلٍ أساساً يظن أن جلوس السوريين في جنيفٍ سيؤدي في اليوم التالي إلى وقف القتال؟ كيف سيقف القتال إذا كانت كل معارضةٍ تجلس لتمثِّل دولةٍ ما ومصالحها؟


لكي تنجح المباحثات، علينا أولاً بسحب هذه الأذرع الإرهابية على الأرض، وماعدا ذلك فإن كل اللقاءات لا معنى لها، ولنستفد من درس "داعش" ونتذكر أن التنظيم قرَّرَ قبل أيام خفض رواتب عناصره للنصف، فهل هي مصادفة أن تراجع تمويل التنظيم ترافق مع نجاح طيران التحالف (الروسي السوري) بقصف ناقلات النفط المسروق والمُهرَّب نحو الأراضي التركية أولاً، والأزمة المالية التي تعانيها مملكة القهر ثانياً، والتي اضطرتها لفرضِ ضرائبٍ إضافية ورفع أسعار المحروقات في البلد الأغنى في العالم نفطياً ثانياً.


دعكم من تصريحات "بايدن" بالأمس عن الجهوزية للحل العسكري، هي للاستهلاك الإعلامي بحضور المضيف التركي، فمن يظن أن جنيف بالنهاية هو اجتماعٌ بين السوريين لإنهاء الحرب فهو واهمٌ، جنيف له وظيفةٌ أهم، وهي الإعلان الرسمي عن خطوط التماس الدولية الجديدة، هو أشبه بالمؤتمرات الدولية التي تلت الحروب لتقاسم النفوذ، ظاهره أطراف سورية وباطنه أبعادٌ دولية، فيها الرابح وفيها الخاسر، وفيها من سيتم تجاهله بشكلٍ كلي، لكن ظروفه لم تنضج بعد.


بمعنى آخر: في لعبة الشطرنج هناك حالةٌ تنتهي فيها المبارزة بالتعادل عندما يكون الملك مَحمياً، لكن الحركة الأخيرة التي سيقوم بها لاعبه ستؤدي إلى انكشافه ووصوله لنقطة كش ملك، عندها يحق للاعب أن يتوقف فتنتهي المبارزة بالتعادل، يبقى الذكاء أن تدرس حركتك ما قبل الأخيرة لكي تجبر خصمك على لعب حركته الأخيرة فيلقى حتفه، لا أن تمنحه فرصة التعادل، فهل الحركة الأخيرة هي لعبة أسعار النفط، أم معركة حلب أو ربما أبعد من كليهما؟

 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=30871