وجهات نظر

في مديح الخطيئة

عصام التكروري


كتب الدكتور عصام التكروري في السفير الثقافي مقالاً تحت عنوان"في مديح الخطيئة"، جاء فيه:

في شهر آب الماضي نشرت صحيفة (Daily Telegraph) البريطانية تحقيقاً عن العروض المسرحية التي تحييها الممثلة البريطانية (شازيا ميرزا) في لندن، وتتناول فيها حالة الاندفاع لدى المراهقات البريطانيات للانضمام إلى "داعش".

حتى هنا يبدو الأمر عادياً، فالتقارير الصحافية اليومية تتحدث عن انضمام المئات من النساء، ومن مختلف الجنسيات إلى "تنظيم الدولة"، لكن ما استوقفني هو التفسير الذي قدمته (ميرزا) لانضمام أولئك المراهقات إلى صفوف داعش، (ميرزا) تشرح ذلك بالقول إنه: "لا علاقة للأمر بالتدين في وسط أولئك المراهقات، بل لحالة الإثارة الجنسية التي يشعرن بها تجاه رجال "داعش" الذين تظهرهم بربريتهم بمظهر الرجال الحقيقيين، الواثقين من ذكورتهم، وبالتالي، على درجة كبيرة من الإثارة الجنسية بالنسبة لمراهقات يأملن أن يجدن بينهن (براد بِت حلال)".

في الحقيقة، تصريحات الممثلة البريطانية لم تتركني محايداً، فقد دفعتني للتفكير ملياً ببراعة القائمين على الماكنة الإعلامية "لتنظيم الدولة" في الربط ما بين بربرية المنتمين إليه، من جهة، ودرجة تمتعهم بالذكورة، من جهة ثانية، هذا الربط كان مؤثراً لدرجة أنه أتى بالنساء من أكثر بلاد الله أماناً حيث يختفي الجنس بوصفه "تابو"، إلى أكثر بقع الأرض خطورة وعنفاً وحيث تُباع النساء "كسبايا" في مشهد يختصر الاستعباد الجنسي.

ولكن ألا يحتمل الأمر تفسيراً آخر؟ أعني، ماذا لو ترك هؤلاء النسوة على برابرة "داعش" الأثر ذاته الذي تركته الغانية (شاماهات) على (أنكيدو) الوحش في ملحمة (جلجامش)؟
تقول الأسطورة: إنه عندما استعصى على السومريين كسر شوكة الوحش (أنكيدو) بالقوة، قاموا بمواجهته بوسيلة خبروا بأن أثرها لا يستطيع أحد لدفعه سبيلا. إنها طاقة الأنوثة التي بنى السومريون عليها حضارة (أوروك)، طاقة الأنوثة المتوهجة من الجنس بوصفها طاقة ارتقاء وتطهير، طاقة يؤدي الحرمان منها إلى تحرير الوحش الهاجع في داخل كل رجل، لذا ـ واتقاءً لهذه الشرور ـ اختراع السومريون نذراً فريداً يتمثل بغانيات معبد (عشتار): نساء يهبن أنفسهن للمعبد، ويمنحن الطاقة الخيّرة التي تكتنزها أجسادهن لمن يرغب من العابرين في (أوروك) أو المقيمين فيها، طاقة الأنوثة تلك حمت مدينتهم من (أنكيدو) الوحش" فوقع صريع الغانية (شاماهات) التي ـ وكما تقول الأسطورة ـ علّمت (أنكيدو) "فن المرأة بالفراش" فانجذب إليها وتعلّق بها، وبعد أن قضى وطرَه منها، هربت الوحوش من صحبته، فأخذته (شاماهات) إلى أوروك"حيث الحِمى والسور والبيت المشرق مسكن (آنو) و(عشتار)، حيث يعيش جلجامش المكتمل القوة.
الرقي
بتقديري، الجنس الذي تُظهره ملحمة (جلجامش) على أنه طاقة ارتقاء تعرَّض لتشويه بالغ على يد غالبية الأكاديميين الذين ترجموا تلك الملحمة إلى اللغة العربية، إذ بالإضافة إلى الحذر الشديد في وصف حالة الفعل الجنسي (حتى لا يتدنس الشرف الأكاديمي ربما)، جرى استخدام أسماء ومصطلحات تتماشى مع نظرة المجتمع العربي إلى الجنس غير المؤسساتي، "فالغانية (شاماهات) جرى تسميتها "بالعاهرة"، والفعل الجنسي الذي تعوّل عليه الملحمة لتطهير النفس البشرية من وحشيتها تمت تسميته (بالدعارة)، لدرجة أن معظم الدراسات التي تناولت الملحمة؛ تثابر على تكرار عبارة تقول: "إن الدعارة هي أقدم مهنة في التاريخ"، علماً أن "الواقع الجنسي" في المجتمعات العربية أغنى بكثير من أن تنقسم معه النساء بين عاهرات وعفيفات وذلك على النحو الذي نستنتجه لدى قراءة كتاب "زواج المتعة" للشهيد فرج فودة، وكذلك كتاب "في الحب والحب العذري" لصادق جلال العظم، كما أن الجنس كطاقة هو أغنى من أن يقتصر على وظيفة تأمين استمرار الجنس البشري، فملحمة (جلجامش) لم تذكر هذه الوظيفة إلا في محاورة يتيمة دارت بين (سيدوري) "آلهة النبيذ" و(جلجامش)، وكأن السومريين أرادوا أن يقولوا للعالم ـ قبل سبعة آلاف وخمسمئة عام ـ إنَّ ما يضمن استمرار البشرية هو رقيُّها، وشرط هذا الرقي والتحضر هو التطهر من كل أشكال البربرية، والجنس إحدى أهم الوسائل القادرة على تطهير النفس البشرية من شرورها؛ تمهيداً لخلق بيئة من المودة والسُكنى تكفل للقادمين إلى الحياة، كثمرة للجنس، استمراريةً تليق بمستوى حالة الخلق التي تمثلها الولادة حيث تختفي ـ أو تكاد ـ كل الفروق بين الآلهة والبشر.
هذه المقاربة قد تدفع الكثيرين لطرح جملة من الأسئلة من عيار: من أين جاء هذا الربط بين الجنس والرذيلة؟ ولماذا الرذيلة مرتبطة بكل علاقة جنسية خارج إطار الزواج الديني، وليست مرتبطة بغياب الرقي عن هذه العلاقة؟
التقيه
أليس العنف "البربري" الذي نجده في بعض العلاقات الزوجية أشبه بما يسمى (زنا المحارم) في التعريف الإسلامي، وتحديداً إذا سلّمنا بأن ما يميز بين مفهومي (الحلال) و(الحرام) هو درجة "المودة والرحمة" التي جعل منها (القرآن الكريم) أساساً لما يسمى (عقد النكاح)!
كيف استطاع "عقل الخطيئة والتقية" أن يفرض سطوته ونفاقه لدرجة يتهافت فيها طلاب الفنون الجميلة على رسم الموديلات العارية حينما يدرسون في أوروبا، فيما "يحرِّمونها" على طلابهم لدى عودتهم للتدريس في كليات بلادهم؟
لماذا تُحارب المشاريع الثقافية التي تحمل دلالات جنسية كمشروع "جسد" لمارسيل خليفة، فيما يتم دعم "دراما غرف النومط التلفزيونية التي تكرّس فيها المرأة كرمز للرذيلة؟
بالطبع، أغلبنا يملك إجابات عن مجمل هذه الأسئلة الإشكالية، ولكن قبل الإجابة دعونا نتذكر أمرين: الأول عبّر عنه (نيتشه) بالقول: "إنه عندما يعِظُ الطيبون فإنّهم يثيرون القرف، وعندما يعِظُ الأشرار فإنّهم يثيرون الرعب"، الأمر الثاني يتعلق بالشواهد الفكرية الراقية التي تركها لنا السومريون والأكاديون والبابليون والتي تؤكد تشبعهم "بفن المرأة"، والآن، إذا أراد أحدنا أن يعرف مدى تشبع أحفادهم بهذا الفن ـ بوصفه أهم أدوات الرقي ـ فيكفي أن يلقي نظرة على مقاعد وسائط النقل العامة، بحسب أحلام مستغانمي؛ تلك المقاعد لا تمزقها إلا أيادٍ "لم تلامس يوماً جسد امرأة".

السفير

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=26616