الاعلام تايم - السفير
لم يكن سهلاً على أبي الطب اليوناني، أبقراط (ت ـ 370 ق. م) أن يقنع الناس بأن الأمراض، خصوصاً مرض الصرع، ليست نتاجاً خفياً أو صنعة سحر وشعوذة. وحين كان يقول لهم إن الجسم السليم قوامه الطعام السليم والهواء السليم، كانوا يضحكون أو يسخرون، وكادوا يتهمونه بمعارضة الآلهة، فالأمراض في عقيدتهم ضربة من الغيب.
وفي مقدمة كتابه «حكمة الغرب»، يقول الفيلسوف الإنكليزي، برتراند راسل (1872 ـ 1970)، إن الشرق، الأسبق حضارياً من بلاد الإغريق، لم يكن بوسعه أن ينتج فلسفة في مقام فلسفة اليونان، القائمة على السؤال والملاحظة والتجريب. ففي الشرق كان الحكام متألهين يعاونهم في إدارة السلطة طبقتان، عسكرية وكهنوتية، ما لا يتيح فتح باب السؤال وهو أول الفلسفة، في حين تفرد الإغريق بالـ «لوغو»، وهو «لفظ يدل إلى معانٍ كثيرة، من بينها الكلام والنسبة والمقياس، ما يترتب على ذلك مذهب يربط الأخلاق في المعرفة».
ما يمكن قوله هنا، إن القناعة بفصل سبب الحادث عن الواقع، كما في حال الطبيب ابقراط، يعني الإصرار على رفض الحقيقة. وحين يغيب السؤال لا يحضر العقل كما في حال الفيلسوف برتراند راسل، وربما تجتمع الحالان في السياسة العـربية حيث تثقل نظرية المؤامرة هذه السياسة، كلما تعقدت الأحداث وصعبت قراءتها. فبدل الذهاب إلى تحليل الحدث وأسبابه، يتمّ الفرار إلى غيب المؤامرة، فيزداد الواقع غموضاً والتباساً.
بالرجوع إلى أرشيف الصحافة اللبنانية، يمكن قراءة التالي:
في 16 و17 تموز 1935، تحدثت صحيفة «صوت الأحرار» عن مؤامرة يحيكها جمال باشا السفاح مع فرنسا لإعادة بسط حكمه وسلطانه على سوريا. غير أن نباهة اللبنانيين والسوريين أفشلت ذلك. وبتاريخ 15 ـ 5 ـ 1947، كتبت صحيفة «الهدف» في الصفحة الأولى: «الأصابع الخفية بإضراب الطلاب ـ إخفاق المؤامرات التي يقوم بها الرجعيون «، وفي نص الخبر أن طلاباً جامعيين لبنانيين أضربوا مطالبين بحكومة محايدة للإشراف على الانتخابات.
في 21 آب 1959، وضعت أسبوعية «الحوادث» على غلافها عنواناً صارخاً: مؤامرة لحرق بغداد، ونسبت «الحوادث» تفاصيل ذلك إلى معلومات سرية، أكدت أن السلطات العراقية ضبطت سيارات كانت تجول في شوارع بغداد، وتلقي وقوداً في الشوارع لأجل افتعال حريق شبيه بحريق القاهرة في العام 1952.
في 29 تشرين الثاني 1960، تحدثت يومية «السياسة» عن شبكة إرهابية يديرها النائب والوزير السابق محمد الفضل، بالتعاون مع الملحق العسكري الأردني في السفارة الأردنية في بيروت، وفي 2ـ 10ـ1961، عنونت أسبوعية «الحوادث» التالي: المؤامرة مستمرة على ناصر، وقالت: «إن المعلومات الورادة من دمشق وعمان وبغداد والرياض تؤكد أن المؤامرة مستمرة على الاتجاه العربي الوحدوي الاشتراكي». وفي 8 حزيران 1962، جاء على غلاف «الحوادث»: شمعون يدافع عن الانقلابيين، وفي التفاصيل أن الرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون وجّه مذكرة إلى السفارات الأجنبية، يعتبر فيها أن عناصر «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، الذين نفذوا انقلاباً عسكرياً، هم من العناصر الوطنية.
صحيفة «الأحرار» عنونت بتاريخ 21ـ 10ـ1965: لماذا اعتقل أكرم الحوراني وزمرته». وبعدما عددت الصحيفة أسماء الموقفين وإيداعهم سجن المزة في دمشق، قالت إن الزمرة الحورانية كانت على اتصال بدولة أجنبية، وعلى رأس الصفحة الأولى من صحيفة «القلم الصريح» في 18 كانون الأول 1965، سأل النائب أسعد بيوض: هل هناك مخطط لنزوحنا (المسيحيون اللبنانيون) عن أرضنا؟
وفي عددها الصادر بتاريخ 9 أيار 1966، عنونت «إلى الأمام»: لمجابهة التآمر الأميركي والتحشدات الإسرائيلية. وفي السادس والعشرين من الشهر نفسه قالت في صفحتها الأولى: الأرض ستلتهب تحت أقدام المتآمرين إذا اعتدوا على سوريا.
بتاريخ 21ـ 8ـ 1970، وعلى صدر صفحتها الأولى، نشرت صحيفة «الأنوار» مقالاً وحديثاً لمحمد حسنين هيكل: «البعث» العراقي مجرد تاجر سوق سوداء. وفي 2 آب 1971 كان عنوان صحيفة «المحرر»: القذافي: أعضاء «الجبهة الشعبية» و «الديموقراطية» ليسوا فدائيين ولا يقاتلون ولكنهم عملاء.
وفي 12ـ 5 ـ 1980، تصدر صحيفة «الماروني» هذا العنوان: إدخال 200 ألف فلسطيني إلى لبنان لإغراق الموارنة في بحر الأغراب. وفي التاسع عشر من الشهر نفسه جاء عنوان «الماروني»: روسيا أيدت توطين 400 ألف فلسطيني في لبنان ـ رشوة الفلسطينيين بأربعة مليارات دولار لتغطية نفقات التوطين.
بالانتقال إلى الصحافة المصرية يمكن قراءة العناوين الآتية:
في 15 كانون الثاني 1954، أفردت «الأهرام» العنوان التالي: مؤامرة كبرى لإقصاء العهد الحاضر يدبرها «الإخوان المسلمون» مع رجال السفارة البريطانية في القاهرة. وفي 17 ـ 11، عنونت «الأخبار»: «الإخوان المسلمون» اتفقوا مع الإنكليز على احتلال القطر المصري كله.
صحيفة «الشعب» كتبت في 15 ـ 10 ـ 1956 عنواناً هو التالي: مؤامرة يدبرها نوري السعيد لاحتلال الأردن، وفي 25 ـ 12، جاء عنوان «الأهرام»: المتآمرون على سوريا أعدّوا خطة غزوها مع العدوان على مصر. وفي 14 شباط 1958، كتب القيادي المصري خالد محيي الدين في «المساء» تحت عنوان: مؤامرات أعداء الوحدة، مشيراً إلى إعلان الاتحاد بين العراق والأردن، حيث جاء في عنوان «المساء»: فيصل ملك العراق رئيساً لاتحاد الدولتين الهاشميتين. وكان العنوان الرئيس لصحيفة «الجمهورية « في 12 آذار 1963: مؤامرة شيوعية ضد حكومة الثورة في بغداد. وفي العدد نفسه، تحدثت «الجمهورية» عن مؤامرة أخرى، ولكن في سوريا، حيث قالت إن خالد العظم رئيس الوزراء السوري بعد الانفصال تلقى رشوة بنصف مليون ليرة، فيما تلقى أكرم الحوراني شيكاً مفتوحاً من جهات خارجية. وفي 15 ـ 5، كتبت «الأخبار» في صفحتها الأولى: الأمة العربية تواجه تآمراً شاملاً، وبعد أربعة أيام من حرب الخامس من حزيران، غطى العنوان التالي صحيفة «الجمهورية»: المؤامرة الثلاثية الشاملة تتكشف بصورتها النهائية. وحين اصطدمت السلطات المصرية مع جماعة «التكفير والهجرة»، كان عنوان «الجمهورية» بتاريخ 21ـ 7 ـ 1977، التالي: مؤامرة ليبية وراء عصابة التكفير لقلب نظام الحكم في مصر.
بعد اقتحام جماعة جهيمان العتيبي الحرم المكي في السعودية، في 20 ـ 11ـ 1979 تحدّثت «الأهرام» عن مؤامرة إيرانية أو فلسطينية وجاء في العنوان: أنصار الخميني يحاولون الانتقام من السعودية ـ عناصر فلسطينية تحاول الضغط على السعودية.
حديث المؤامرة في الصحافة السورية سبق استقلال سوريا، ويمكن تتبع ذلك على هذا النحو:
في 18 كانون الثاني 1935، عنونت صحيفة «الأيام»: مؤامرة أنقرة وبرلين على سوريا.
صحيفة «القبس» وبتاريخ 26 ـ 1ـ 1954، كتبت على رأس صفحتها الأولى: مؤامرة لتقاسم النفوذ في بلادنا ـ انكلترا تسأل عن خطط أميركا لإعادة مأساة معاهدة «سايكس ـ بيكو». وفي 17 كانون الأول في العام نفسه تساءلت «الجمهور»: هل هناك دول أجنبية تسلّح عشائر حدود الشمال؟ وفي 16 ـ 1ـ 1956 كتبت «الأيام» عن الأردن: أسرار مؤامرة البرلمان المزوّر ـ الدور الذي يلعبه أنصار غلوب بعد زيادة رواتبهم. وفي 23ـ 11 من السنة عينها جاء في «مانشيت» صحيفة «الأيام»: مؤامرة الانقلاب أعضاؤها أديب الشيشكلي وجماعة صفا والحزب القومي.
في 4 نيسان 1962، خصصت صحيفة «الأيام» صفحتها الأولى للحديث عن تمرد عسكري في مدينة حلب بعد أشهر من الانفصال، فقالت: سحق حركة المندسين وإذاعة وثيقة المتآمرين مع القاهرة. وفي 7 ـ 7 في العام ذاته جاء على نصف صفحتها الأولى: فرار السراج واللواء زهرالدين يندد بالمندسين خفافيش الظلام. وكتبت «البعث» في 14 آب: الجميع يتآمرون والشعب هو الضحية. وفي الثالث والعشرين منه، وبالعنوان العريض، كتبت «الصدى العام»: مخطط لحرق دمشق كما حرقت القاهرة (راجع «الحوادث» عن مؤامرة لحرق بغداد). وفي 8 أيلول كتب صلاح الدين البيطار في «البعث» تحليلاً جعلته الصحيفة عنواناً لها، فقال: الانفصال وقع للإجهاز على الوحدة والاشتراكية.
وبعد الانفصال اشتدت هجمات بعض الصحف السورية على مصر، فعنونت صحيفة «دمشق» في 23 ـ 7 ـ 1962: عبد الناصر يحلم بالعودة إلى سوريا واكتشاف خلايا تخريبية في دمشق وحمص وحلب. وفي 28ـ 8 من السنة عينها، وعلى عرض الصفحة الأولى، كتبت «البيان»: وثيقة دامغة تؤكد الخيانة الناصرية ـ كيف باع عبد الناصر القضية الفلسطينية لقاء بعض الفضلات التموينية الأميركية. وفي اليوم التالي جاء عنوان يومية «دمشق»: الضابط المصري يفضح أسرار عبد الناصر ـ المقدم زغلول يعترف بارتباط عبد الناصر بدولة أجنبية.
بالعودة إلى صحيفة «الأيام»، فقد توسعت في الحديث عن: قوائم رسمية برؤوس الفتنة واعترافات خطيرة للعصابة الناصرية، وذلك في 29ـ 1ـ 1963. وفي 8 شباط كتبت عن مصائر الطغاة والمؤامرة التي كشفتها الصحف قبل يوم من ذلك. وفي 8 أيار 1967، جاء في «البعث»: ضابط عائد من الأردن يكشف خفايا المؤامرة الجديدة ضد سوريا الثورة.
بالعودة إلى أقوال الفلاسفة، يقول أحد أهم المشتغلين العرب في الفلسفة في النصف الأول من القرن العشرين، المصري يوسف كرم، إن عدم بزوغ الفلسفة في الشرق، مردّه إلى أن الشرقيين الذين كان لديهم معارف، «عالجوها بالخيال وليس بالاستدلال». وربما هذا ينطبق على كيفية التعاطي العربي مع تعقيدات السياسة، حيث تتمّ معالجتها بـ «غيب المؤامرة»، وبألفاظ تتـــعارض مع حقائق الأشياء والواقع. وهذا ما كان يقوله السفسطائيون حين كانوا يقولون: نحن ننـــقل إلى الناس ألفاظنا.. ولا ننقل إليهم الأشياء».